عندما قرر بريجنيف التدخل في أفغانستان في العام 1979 كانت الحرب الباردة مع القطب الغربي في ذروتها، وكان يأمل بتوسيع دائرة النفوذ السوفييتي في وجه تمدد الولايات المتحدة الأمريكية شرقا وإقامتها قواعد عسكرية في عدة دول آسيوية على الحدود الجنوبية للدولة الشيوعية.
نجح مرحليا وفرض سلطة في كابل، لم تلبث أن سقطت بفعل الدعم الأمريكي للفصائل الرافضة لهذا التدخل، وكان أن أخرج غورباتشوف عام 1989 تلك القوات وفي جعبتها خسائر لا يمكن وصفها بالقليلة، وأهمها الهزيمة السياسية، التي كانت مقدمة لانهيار التحاد السوفييتي.
لم يغادر طموح التوسع القيادة الروسية، وحاولت التسرب إلى أكثر من موقع في العالم من خلال الدول الحليفة للاتحاد السوفيتي سابقا، غير أنها لم تنجح بذلك لأنها باتت أضعف عسكريا وسياسيا، ولم تكن لتتحمل النفقات المالية لتدخلات عسكرية كبيرة، وهي على أعتاب انهيار اقتصادي، باستثناء تدخلها في ليبيا والتي انتظرت تمويله مما تسرقه من نفط، وهذا أيضا بقي محدودا لتزاحم الطامعين بالنفط الليبي.
بيد أن أول تدخل عسكري حقيقي بعد الهزيمة في أفغانستان كان في سورية، حيث استغلت روسيا رخوية أوباما وامتناعه عن التدخل العسكري في الشرق الأوسط، ووجدت الأجواء مهيأة لنجاح يحلم به بوتين بشكل شخصي، فالشرذمة العسكرية للمعارضة لا تمنحها أفضلية مقاومة هذا التدخل.
رسمت أجندتها الحربية في سورية على أساس القضاء على الفصائل التي قد تشاغب وتفكر بالتصدي لتدخلها، فاستهدفت بصواريخها الجوية والبحرية مقرات الجيش الحر، ولا سيما القريبة من قاعدة حميميم، في ريف إدلب الغربي وريف اللاذقية، وأضعفتها للدرجة التي سمحت بانتشار أوسع للفصائل الإسلامية المشغولة بالخلافة.
منذ نهاية أيلول قبل ثلاث سنوات وهو تاريخ التدخل الروسي، لم يسجل قصف حقيقي على الفصائل الموسومة بالإرهاب، بل أن كثيرا من شهود العيان أكدوا أن الطائرات الروسية كانت تقصف فصائل الجيش الحر التي تحارب "داعش" في شمال حلب وريف إدلب، مما سمح بتوسيع سيطرتها في بعض المراحل، والأمر ذاته ينطبق على مسلسل دخول "داعش" إلى تدمر والخروج منها.
لكن الرغبة الدولية بتحجيم التنظيم المتطرف أرغم روسيا على استهدافه غير مرة، دون التصعيد إلى درجة القضاء عليه تماما، وخير مثال على ذلك هو استمرار وجوده شرق السويداء إلى ما قبل أيام، وكذلك رعاية الروس لنقل عناصر التنظيم من شرق وجنوب دمشق ودرعا إلى البادية السورية.
تدرك روسيا أن تعامل إدارة ترامب مختلف عن الإدارة الهشّة السابقة، ولن تتساهل بقضية بقاء طويل غير مبرر للقوات الروسية خارج قاعدة حميميم، لذلك تتعمد روسيا إيجاد سبل للاحتفاظ بما تسميه خطر الإرهابيين المتمثل بجبهة النصرة، من خلال اتفاقات الأستانة وسوتشي، التي تنص على أن تتولى تركيا إيجاد حل للجبهة، ولم تكلف روسيا نفسها الضغط على الأتراك لتنفيذ الاتفاق، بل اتفقت معها على تمديده دون وضع خطة لإنهاء النصرة.
إن وجود جبهة النصرة حيوي لروسيا، فهو مسّوغ لتعزيز وجودها العسكري في سوريا من خلال التهويل في وسائل الإعلام بخطرها وضرورة التحضير للقضاء عليها، بعدما انتهى فعليا وجود المبرر السابق "داعش" في مناطق نفوذها الحيوي.
حتى اللحظة، لا يشكل وجود فصائل إرهابية خطرا على القوات الروسية المنتشرة في جنوب سوريا ووسطها والشمال، ولم تسجل مواجهة كبيرة معها، كما أمنت روسيا جانب فصائل الجيش الحر، حيث سمحت لتركيا التي التزمت باتفاق سوتشي أن تبسط جناحها عليها وتخضعها للاتفاق، وبذلك تضمن روسيا عدم التعرض لخسائر بشرية أو مادية، وتستطيع ادعاء النصر وهي التي تمكنت من وقف المقاومة، ومكّنت بشار الأسد من بسط سيطرته على مساحات واسعة لا سيما في المنطقة الجنوبية، أبعد خطر هجوم مفاجئ يعكر صفو انتصارها المزعوم.
قد لا تكون روسيا بحاجة لتبرير وجودها العسكري في سورية، ولكن وجود عدو مفترض، يجعلها أكثر قوة عند طرح موضوع سورية بمساومة الغرب في ملفات أخرى كقضية جزيرة القرم، والتصعيد الأخير مع أوكرانيا، لذلك لن تستعجل معركة ضد جبهة النصرة، ويكفيها مرحليا اتفاق خفض التصعيد والاحتفاظ بورقة المعركة إلى وقت الحاجة.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية