مما لا شك فيه أن منطقة الشرق الأوسط باتت، نظراً لما تختزنه من موارد طبيعية ثمينة، مختبراً لسياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة. وإذا كان من المبكر المقارنة التفضيلية بين نهج الرئيس السابق جورج بوش، والرئيس الحالي باراك أوباما كون سياسة الثاني لم تتضح معالمها بعد، يبقى الأكيد أن نهج "الغاندية" الذي باشر باعتماده الرئيس أوباما في مقاربته للأزمات الشرق أوسطية العالقة، قد يكون بحد ذاته مغامرة مجهولة النتائج على المدى المتوسط والأبعد.
نقول "سياسة بوش الفاشلة"، ونكيل لها شتى أنواع التهم والنعوت. ولكن هل فشل جورج بوش فعلا في سياسته الشرق أوسطية؟ ونحن كعرب إذ نقيم سياسته من منطلق تعذره عن إحلال الديمقراطية في العراق كما وعد، ومن خلال عدم قدرته على احتواء حركة طالبان في أفغانستان، وفشله في ملاحقة بن لادن و"سوقه إلى العدالة" كما كان يحلو له ترداده، ناهيك عن تعذره عن الضغط على إسرائيل للخروج بحل الدولتين كما وعد في بداية عهده، نحن إذًا في تقييمنا هذا ننسى أو نتناسى أن جورج بوش، وعبر سياسته التي نسميها "بالحمقاء"، إنما ركز على وسيلة قديمة جديدة واحدة، وهي "فرق تسد". ونتيجة تدخل مباشر عسكري في العالم العربي، أو غير مباشر وبالوكالة وبواسطة بلدان شرق أوسطية تسمي نفسها "محورية"، تم إحقاق الفوضى المطلوبة. فزرعت الفرقة بين المذاهب الإسلامية، وتنامت مشاعر الحقد والكراهية بين الطائفتين الشيعية والسنية. واستتب الخلاف والبغض والنفور بين مختلف الدول العربية، وأدى إلى هذا الشرخ الذي صنفت بموجبه لاحقا بعض الدول العربية بالمعتدلة، وأخرى بالممانعة. وقوي هذا الشرخ واستحكم التنافر، تغذيه وتدعم أسسه إيران، في مساعيها لنشر التشييع ليس كتشيع ولكن كإيديولوجية العداء للاختلاف وللآخر، ناهيك عن عدائها المعلن تجاه دول الجوار الأقرب والأبعد، وآخرها كان تجاه مملكتي البحرين والمغرب وجمهورية مصر العربية. دون أن ننسى تهجمها على السلطة الفلسطينية وعلى السعودية مرورا بحكومة السنيورة. تساندها في مهمتها هذه دول عربية أيضا ساهمت أيضاً في مساعي صب الزيت على نار الفرقة.
قام "الشرطي" الأمريكي بما كان مطلوبا منه عبر العالم العربي قاطبة، وحيث لم يستعمل القوة عمد إلى بث سموم الفرقة بين الإخوة في الدين الواحد. فهل جاءت اليوم مرحلة توزيع الجوائز للمتعاونين "الشطار" وللذين قاموا بدورهم على أحسن ما يرام، وربما تخطوا أهداف وآمال المدبر والمعلم؟
هل جاء اليوم وقت الغزل؟ وهل فعلاً تتعنت إيران تجاه الولايات المتحدة وتتجبر اليوم؟ في كل الأحوال إسرائيل ليست بوارد مواكبة مواقف المواربة هذه. وقد لا تعنيها مشاعر الغزل المعلنة اليوم من قبل الولايات المتحدة تجاه إيران، وتفضل أخذ الحيطة والحذر، وذلك بالرغم من اقتناعها الضمني بدور إيران "الأمريكي"، ومساهمتها الفعلية والناجحة في عملية تفتيت العالم العربي، وفي شرذمة مكوناته الدينية. وقد لا تشارك إسرائيل في التصفيق لقدوم نسائم الغزل العليلة، أسوة بألمانيا والاتحاد الأوروبي وفرنسا وبريطانيا، وتؤثر التهنئة من طرف اللسان بعيد النيروز الإيراني، بواسطة الناطق المعتدل باسم الكيان الإسرائيلي شيمون بيريس. إسرائيل تحافظ على إمكانية الإمساك باحتمالات الحلول العسكرية.
والحكومة المتشددة والصارمة التي سوف تتشكل تبعاًَ لنتائج الانتخابات المتطرفة الماضية، تظهر مدى التناقض الصارخ فيما بين النهج السياسي الإسرائيلي المستقبلي، ونية الإدارة الأمريكية الجديدة في اعتماد الليونة والنعومة في التعاطي مع الأزمات الشرق أوسطية العالقة.
فهل يفلح "غاندي" في إكمال مهمة "الشرطي"؟
ولا نقول ينجح الأول حيث فشل الثاني، لأنه ليس هناك تغير دراماتيكي في السياسة الأمريكية، بل الاستراتيجية الأمريكية تنساق في نهج تكامل وامتداد. بمعنى أن مرحلة التشدد عندما تأتي بما هو مطلوب منها لا بد وأن تليها مرحلة استكمال تكون أخف لهجة وأكثر ليونة. ومن منظار الإدارة الأمريكية التغيير يحدث، ليس لأن السياسة السابقة فاشلة وأن بوش "شرطي" شرير وأوباما هو "غاندي" العصر، بل لأنه قد تكون من غير الواقعية وحسن الدراية والتخطيط، المضي بنمط سياسي واحد، من دون أفق.
هذا من ناحية الإدارة الأمريكية. ولكن ماذا عن موقف العرب وغير العرب في منطقة الشرق الأوسط تجاه بوادر هذا التغير الظاهري في السياسة الأمريكية؟ وليس من باب التحيز أو تأييد لسياسة العصا والجزرة والتي دأبت الولايات المتحدة ومن بعدها كل المجتمع الدولي على استعمالها مع محور الممانعين، ولكن وتبعا لردود الفعل الحالية من دول ومنظمات هذا المحور بالذات يمكن القول بأن بدايات التمرد والتنمرد بدأت تظهر تباعا وكردات فعل أولية على مبادرات الليونة هذه.
لأنه، وكما رأينا، وعندما أعرب أوباما عن نيته الكلام مع "المعتدلين في حركة طالبان، قالوا له "خيط بغير هذه المسلة"، على أساس أنه لا يوجد تياران متضادان داخل الحركة. ومن ثم أعلن الانفتاح والحوار مع سوريا، وانهالت على سوريا بوادر الزيارات واللياقات من مختلف الاتجاهات. وإذا تحفظت سوريا عن الشماتة، فحزب الله قام بالواجب وسارع للتكلم باسمها، على أساس أن سوريا لا بد منها شرق أوسطيا، وأنهم أخيرا تنبهوا إلى أهميتها ودورها المحوري، فصححوا خطأهم.
ومن بعدها أعلنت الخارجية البريطانية نية الانفتاح على الجناح السياسي في حزب الله، فرددوا بما سبق وعبرت عنه حركة طالبان. ولم يتوان السيد حسن نصر الله عن الشماتة قائلا إن الحزب لم يتغير بل هم تغيروا بعودتهم عن ضلالهم وغيهم. نعيما!...
والآن، وبمناسبة تقديم الرئيس أوباما لباقة من الزهور الملونة والمنمقة بكافة أنواع الألفاظ والتعابير اللطيفة، بمناسبة عيد النيروز، جاء الرد الإيراني على لسان علي أكبر جوانفكر المساعد الأول للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لرويترز، "بأن ما قدمته إدارة أوباما حتى الآن هو الكلام"... وأنه لا بد لأوباما من القيام "بتغييرات جذرية في سياسته تجاه إيران"، وأضاف بأنه ما من شيء أو أحد يمكنه أن يوقف البرنامج النووي الإيراني. إذًا عدنا إلى لعبة الشطرنج والتي غالبا مارستها إيران مع المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة وفي أكثر من مناسبة.
ثمينة ومثالية سياسة الحوار والتنسيق والانفتاح، وقد تناسب مصالح الولايات المتحدة اليوم أكثر من سواها. ويذهب البعض إلى تسمية هذه السياسة بالبراغماتية، أي بسياسة التعامل الذكي والحذق مع معطيات الأمر الواقع. ولكن لا بد من الإشارة إلى أنه وعلى الرغم من ذكاء هذه الاستراتيجية، لا بد وأن تأتي في مقدمة أولوياتها الاعتراف أو الإقرار بمعطيات هذا الأمر الواقع، وهنا تكمن الخطورة أو المنزلق الذي يهدد نجاح هذه الاستراتيجية؛ لأنه لا بد من سؤال يدور حول فعالية التعامل مع دول تعدت على جيرانها وانتهكت قوانين حقوق الإنسان، ولا بد من التوقف حيال أخلاقية مبادرة الانفتاح والتعاون مع منظمات اتهمها المجتمع الدولي -في العقود السابقة- بالإرهابية وما زال.
ألا تشكل مبادرات الانفتاح ونية التحاور معها اليوم، والوقوف على رأيها في عملية صياغة سياسة الشرق الأوسط عامة، تشجيعا لمنظمات إرهابية أخرى، ودول لم تمارس هذا النوع من الابتزاز حتى الساعة للانسياق في المجرى ذاته، على أساس أنه في آخر المطاف سوف تفرض نفسها وبقوة الأمر الواقع على كل المجتمع الدولي وعلى مجلس الأمن أيضا؟!
|
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية