أمضيت هذا الأسبوع ساعات طويلة في رحاب القدس، أعيش بين حواريها، واستنشق عبق تاريخها المضمخ بالشهادة، وأجوس في طرقاتها، أصغي السمع إلى أصوات مآذنها ترفع اسم الله متحدية جبروت اليهود، مؤكدة أصالة هويتها الإسلامية رغم كل الجهود الحثيثة التي تبذل من قبل يهود لتغيب هذه الهوية.
فعلت ذلك كله وأنا أقرأ كتاب القدس امتحان البقاء وهوية الوجود للراحل المغفور له بإذن الله الحاج جمعة حماد، جهامة بقدرته الفائقة على التصوير والوصف بشاعرية مفرطة. وقد قام بجمع الكتاب وتحقيقه نجله الدكتور حسن حماد، كإضافة جديدة من بناء البر بالأبوين الذي يشيده الدكتور حسن، وفاءً لأبيه، الذي مضى من هذه الدنيا دون أن يتقطع ذكره فقد ترك وراءه صدقة جارية هي علمه الذي يُنتفع به، وولده البار الذي يدعو له ويحافظ على إرثه. بل ويسعى لترسيخ هذا الإرث وإغنائه، عبر جهده المتواصل لجمع وتحقيق تراث أبيه. وبذلك يكون الدكتور حسن حماد من الأبناء الذين يثرون تراث آبائهم و يضيفون إليه. لا من الأبناء الذين يعيشون عالة على هذا التراث فيضيعونه. فالحمد لله الذي جعل الدكتور حسن من الفئة الأولى. لأنه بجهده لم يكن باراً بأبيه فقط، بل كان باراً بأمته عندما حفظ لها تراث واحد من أهم كتّابها ومفكريها. ومن أكثرهم فهماً لقضيتها المركزية. أعني قضية فلسطين والقدس جوهرتها. والذين يقرؤون تراث الحاج جمعة حماد ومن بينه كتابه القدس امتحان البقاء وهوية الوجود يكتشفون بسهولة ويسر عمق فهم جمعة حماد للمشروع الصهيوني ومركزية القدس في هذا المشروع. حيث يتضمن كتاب حمّاد عشرات الأدلة على هذه المركزية للقدس في المشروع الصهيوني
ومثلما كان جمعة حماد يفهم المشروع الصهيوني ومركزية القدس في هذا المشروع، فقد كان يفهم أيضاً وبعمق التحالف اليهودي مع المسيحيين الغربيين وهو التحالف الذي يؤكد البعد الديني للصراع الدائر في فلسطين حيث تمكن الصهاينة من خداع شرائح واسعة من المسيحيين الغربيين فصارت في الغرب مذاهب دينية كاملة تؤمن بأحقية اليهود بالقدس وتربي أتباعها على ذلك، وهوالأمر الذي تستثمره الصهيونية التي تتقن حلب وتسخير هذه المذاهب مما يوجب على المسيحيين العرب التصدي لمهمة بيان الحقيقة وفضح المؤامرة الصهيونية التي تستهدف القدس.
وفهم جمعة حماد للمشروع الصهيوني، قاده إلى فهم عميق لأساليب الصهيونية، وقدرة الصهاينه على التدرج في تحقيق أهدافهم. بالاضافة إلى قدرتهم على قضم حقوق الآخرين. وفي هذا المجال يشير الحاج جمعة حماد إلى واحدة من أهم مزايا أساليب اليهود في العمل. وهي أنهم لا يهملون شيئاً. ففي الوقت الذي يسعون فيه للوصول إلى الأهداف الكبرى. فإنهم لا يهملون الأهداف الصغرى ويعملون باستمرار على تحقيقها. بالإضافة إلى قدرتهم على الجمع بين المتناقضين خدمة لأهدافهم. وهو في حديثه عن أساليب الصهيونية ظل يؤكد بأن اليهود يؤمنون بأن القتل والتدمير أسرع وسائلهم لتحقيق الأهداف. وخاصة هدف تفريغ الأرض من أصحابها. وإذا كان القتل هو وسيلة الصهاينة الأسرع، فإنهم يمتلكون قدرة مميزة على زراع رجالهم في وسائل الإعلام والمصارف والمصانع لأحكام السيطرة على الثقافة والمال في هذا العالم.
لقد جاء فهم الحاج جمعة حماد لأساليب العمل الصهيوني نتيجة لفهمه للنفسية اليهودية المتعالية وقد وصل جمعة حماد إلى هذه الدرجة المتقدمة من الفهم للمشروع الصهيوني نتيجة لقراءة معمقة للتاريخ. قام بها بعقلية المحلل الحاذق القادر على استنباط العبر واسقاطها على الواقع لفهمه. بالإضافة إلى أن جمعة حماد كان راصداً يومياً دقيقاً لكل ما يجري في فلسطين عموماً. والقدس على وجه الخصوص.
لذلك لا غرابة في أن يكون الباب الأول من كتابه القدس. امتحان البقاء وهوية الوجود، تكثيف أدبي بليغ لتاريخ القدس وفهم جمعة حماد للتاريخ مكّنه من تشخيص حال أمته وأسباب نكبتها في فلسطين، التي يعتبرها جمعة حماد تحديّاً للأمة، يجب أن تنتصر عليه وتزيله، وأول خطوة إلى ذلك الإرتفاع إلى مستوى التحدي من خلال التنظيم والإدراك والقوة.
إن من أهم اسباب النكبة التي يشير إليها الحاج جمعة حماد في كتابه الذي بين يدينا، قدرة الحركة الصهيونية على الأخذ بالأسباب، في مقابل أهمالنا وتقاعسنا وفرقتنا، وعجز قياداتنا عن الإرتفاع إلى مستوى التضحيات التي قدمتها جماهير الأمة. بالإضافة إلى تحكم الفردية والجهل والغفلة بأغلب فئات المواطنين العرب. ومن أسباب نكبتنا أيضاً أننا اعتمدنا على قرارات الأمم المتحدة اعتماداً ارفقناه بعدم القدرة والعجز.
وباستعراضه لأسباب النكبة يقدم جمعة حماد فهما دقيقاً للعلاقة بين حكّام الأمة وجماهيرها. ويقارن بين أساليبنا بالعمل وأساليب عدونا. كما يؤشر إلى دور القرارات الدولية في خداعنا. ثم في صنع نكبة فلسطين. ويصف الحاج جمعة حماد الأداء الدبلوماسي العربي حول قضية فلسطين وصفاً بليغاً عندما يقول: كانت خطابات المندوبين العرب من فوق منابر الأمم المتحدة رنانة وبليغة. غير أنه لم يكن لأكثرها الآثار المنتظرة لتلك البلاغة. كان معظمها يغشى السميعة من الأعضاء بالنعاس. وكان يقال أن تلك الخطابات لم تكن موجهة لأولئك الأعضاء بمقدار ما هي للسميعة في البلاد العربية. وكانت بطبيعة الحال تجد من الإهتمام بالتعميم والنشر بين الأهل أكثر بكثير مما تجد في أروقة الأمم المتحدة. ولعله حتى في هذا الميدان الذي ربما ترك خصيصاً للعرب يصولون فيه ويجولون. كان التفوق من نصيب مندوب العدوان. حتى قيل: ان الفرق بين كلام معظم المندوبين العرب والمندوب الصهيوني في دوائر الأمم المتحدة كالفرق بين الثكلى والنائحة المستأجرة .
وإذا كان المغفور له بإذن الله الحاج جمعة حماد قد تحدث عن نكبة فلسطين بشكل عام، فقد خص القدس ونكبتها بالجزء الأكبر من كتابه. ولا غرابة في ذلك ليس لأن الكتاب مخصص للحديث عن القدس فقط. بل لمعرفة وإدراك الرجل لمكانة القدس ولمركزيتها في الصراع الدائر في فلسطين. والذي كان الحاج جمعة حماد يرى فيه صراعاً بين الحق والباطل. وبين الفضيلة والرذيلة. ومن إدراكه لأهمية القدس ومكانتها كان جمعة حماد يرصد يوماً بيوم كيف سيطر اليهود على القدس. وكيف يستعدون لبناء الهيكل مكان الأقصى وقد ضمن كتابه تجربته الشخصية في مراقبة جهود اليهود لهدم المسجد الأقصى، بعد أن مسحوا حارة المغاربة وأشعلوا النار في الأقصى. حيث إحتل الحديث عن إحراق المسجد الأقصى مساحات واسعة من الكتاب. ولا غرابة في ذلك فحريق المسجد الأقصى أخذ جزءاً كبيراً من وقت ووجدان وجهد وقلم جمعة حماد. الذي اعتبر هذا الحريق ثلمة في ضمير كل مسلم. مع اشارته إلى حذر اسرائيل في تنفيذ مخططها لإزالة الاقصى متحدثاً عن أثر إحراق المسجد الأقصى. على وعي الأمة. وكيف تحرك العالم لتطويق هذا الأثر خوفاً منه. مؤكداً أن أبناء الأمة يرفضون التفريط بالقدس. وهم مستعدون للدفاع عنها بكل ما يملكون. وفي هذا المجال يقرر الحاج جمعة حماد. أن مسؤولية القيادة وأصحاب القرار نحو القدس هي الأكبرَ والأهم. لكن مسؤولية الشعوب هي الأعم والأشمل. مقرراً كذلك أن الشعوب الإسلامية ليست بخير وأن هبة حريق المسجد الأقصى تمت السيطرة عليها كاملة.
كثيراً هي الموضوعات والمحاور المتعلقة بالقدس والتي يتناولها الحاج جمعة حماد في كتابه. ابتداء من مكانة القدس، ومعنى الإسراء والمعراج، وأثره على مكانة القدس، وصولاً إلى استعراضه لإجراءات اسرائيل لهدم المسجد الاقصى. مؤكداً أنه رغم التهديدات الإسرائيلية للقدس فإنه ليس للقدس نصيب مميز في حركة الدبلوماسية العربية . أو حصة مخصوصة في الدعم العربي. مؤكداً بأنه رغم كثرة المؤتمرات واللجان والهيئات من أجل القدس فإنه لا حصيلة لها . مطالباً بأن يكون شعار القدس أولاً شعاراً جماعياً للأمة كلها. باعتبار أن القدس أمانة السماء عند الأمة قائلاً: القدس هي أم الأسرار في هذه الأمة وستحركها بإذن الله وتتحرك لها. كما فعلت ذلك في أكثر من سابقة وفي هذا المجال ينتقد جمعة حماد كيف خبت الإحتفالات بيوم الإسراء والمعراج رغم أن المؤتمر الإسلامي قرر أن يكون يوم الإسراء والمعراج هو يوم القدس.
لم يتوقف الحاج جمعة حماد يرحمه الله في كتابته عن القدس عند حدود وصف واقع الأمة والبكاء عليه، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. عندما قدم خلاصة رؤيته لطريق التحرير. وأول ذلك ايمانه بأن حال هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها. وثانيها أن القوة وحدها هي طريق تحرير فلسطين والقدس، وأن إسرائيل لا تؤمن بالسلام محذراً من مخطط تهجير المقدسيين من المدينة المقدسة بفعل تضييق الإسرائيليين عليهم. مثلما ظل يحذر من خطورة الاستثمار الأجنبي في المدينة مذكراً بقرار السلطان عبد الحميد منع تملك الأجانب في فلسطين. كما حذر حماد من مؤسسات المجتمع المدني عندما تكون غير خاضعة للرقابة الوطنية، كذلك حذر من خطورة الأقليات عندما تصل إلى السلطة مشيرا إلى نجاح اليهود في تحقيق بعض أهدافهم. عندما وصل أحدهم إلى موقع الوزارة في حكومة الاتحاديين التركية وهو اجاويد بك . داعياً في الوقت نفسه إلى توظيف قدرات المغتربين العرب لخدمة قضايا الأمة،
ومن أجل تحرير فلسطين كلها والقدس على وجه الخصوص، فإن جمعه حماد يؤمن بأن التحرير لا يتم بالتصريحات والاقتراحات. فالقدس تشكل لأمتنا امتحان البقاء وهوية الوجود ولا تحرر إلا بالدم. مطالباً بتحويل عواطف الأمة إلى عمل حركي مستمر حتى تحرير القدس مع مواصلة العمل على حث الجماهير على الصحوة والانخراط في معركة القدس. مؤكداً بأنه لابد للعربي من العربي إذا أرادت العرب ان تحيا، وتحرر فلسطين. ويلاحظ القارئ أن جل خطاب جمعة حماد كان موجها لجماهير الأمة بعد أن فقد الثقة بقياداتها وبالمؤتمرات الرسمية لهذه القيادة.
خلاصة القول في رؤية جمعة حماد لتحرير القدس أن هذا التحرير يحتاج إلى بناء وعي الأمة. وهي مسؤولية العلماء التي ظل حماد يلح عليها داعياً العلماء إلى الافاقة. وإلى ربط القول بالعمل. وإلى التأكيد بان الصلاة لا تنفصل عن الكرامة والعزة والحرية. وتتناقض مع الخضوع للاحتلال.
كتاب القدس امتحان البقاء وهوية الوجود لجمعة حماد يتحدث عن مأساة الأمة في واحدة من أهم بقاعها وأقدس مقدساتها غير أن قراءته ممتعة بفعل أسلوب جمعة حماد المميز. فرغم أن الكتاب هو في الأصل مجموعة مقالات قصيرة كتبها واحد من أهم كتاب المقالة القصيرة والرقيقة في الصحافة العربية، غير أن هذا الكتاب يعكس طبيعة جمعة حماد الباحث والمحلل والمفكر. في الوقت الذي يعكس فيه أيضاً قدرته على التصوير والوصف بشاعرية عالية. كما يعكس أسلوبه الروائي الأخاذ ولغته الجزلة ذات الجرس الموسيقي القوي، مع قدرة فائقة على تضمين لغته الفصحى الغنية بالمفردات العامية دون أن يجرح ذلك أذن القارئ أو عينه . فالحاج جمعة حماد يمتلك قدرة فائقة على توظيف العامية دون أن تبدو نافرة أو مقحمة. كل ذلك مع غزارة وتنوع في الثقافة وقدرة على تكثيف المشهد لا تباريها إلا قدرته على التشبيه والسخرية اللاذعة. ورشاقته وقدرته على الوصول إلى القارئ. في إطار من التميز في التحليل السياسي الذي يعكس الم المجاهد الذي انكسر في الميدان العسكري فظل يقاتل بالكلمة دون أن ينكسر لأنه يؤمن بغد أمته. وبقدسية القدس التي يقول عنها هذه البقعة المطهرة التي تلتقي فيها السماء بالأرض وتحوم من حولها أرواح الصديقين والشهداء لا يطهرها الضعفاء والفاسدون. ان القدس هذا المكان المتميز على هذه الكرة لا تقبل إلا التجرد المطلق في حبها أو حب الحق الذي أراد لها هذا الطهر والتشريف.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية