الحقيقة المؤكدة، أن أعدادا كبيرة من أشجار الزيتون في "عفرين" شمال سوريا تم قطعها وتحويلها إلى حطب يباع في الداخل وتركيا، وهي جريمة توازي إزهاق أرواح البشر لأن هذا الزيتون يطعم بشرا، وقطعه يوقف مصدر رزق أصحابه ويهدد حياتهم، غير هذا لا يمكن تأكيد شيء، لا سيما فيما يخصّ الفاعل، والغاية الحقيقية من الفعل.
*توصيف ضروري
لا يمكن لعاقل الاقتناع بأن من قطع أشجار زيتون عمر بعضها أكبر من عمر والد الفاعل ذاته، لا شك أن غايته أبعد من حطب وأكثر من مكسب مادي لا يتكرر سوى مرة واحدة، ولو كانت غايته مادية فقط لكان قطف ثمارها وباعها زيتونا وزيتا، ويمكن لهذا أن يتكرر سنويا، وربما تدرّ عليه مردودا أكبر من ثمن حطبها بموسم واحد، إن غاية المجرم تتمثل بإثارة الفتنة بين الكرد والعرب، بين المدنيين والفصائل العسكرية في المنطقة، ولعلّ غايته تتجاوز ذلك لتشويه سمعة تركيا والجيش الحر.
عندما تتوجه أصابع الاتهام بعدة اتجاهات يغدو الفاعل مبنيّا للمجهول، كيف لا وكل طرف يتهم آخر بالوقوف وراء الجريمة، بعض الكرد يتهمون فصائل الجيش الحر عامة ومعهم الجيش التركي، بعض العرب يتهمون مجهولين وفصيلا بذاته هو "فيلق الرحمن"، العسكر يقولون إنها عصابات مدنية مسلحة تنفذ الجريمة، ولا يستطيع أحد ضبطهم، وهناك من أشار لدور عناصر "بي يي دي" في الجريمة بغرض تنمير الأكراد على فصائل الجيش الحر والأتراك.
"زمان الوصل" اتصلت بأشخاص على صلة واطلاع بالموضوع من عرب وكرد وعسكر وأتراك، استمزجت آراءهم وبحثت من خلال تفاصيل أحاديثهم عن الحقيقة، التي سنعرضها في السطور التالية، لكن قبل ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن كل من تحدث إلينا أصرّ على عدم ذكر اسمه، واشتركوا جميعا بأن سبب هذا الإصرار يعود لخوفهم من الاغتيال، لذلك ستكون كل الأسماء الواردة غير حقيقية، مؤلم هذا الواقع، لقد بات الجميع في "عفرين" يخاف من الجميع، يخشى الاغتيال بسبب كلمة أو معلومة يدلي بها، إنه موضوع كبير قد نعود إليه لاحقا، الآن، فقط نتحدث عن قصة وجع الزيتون وحسب.
*جريمة بحق روح عفرين
صفحات إعلامية معارضة، وصفحات شخصية كثيرة على "فيسبوك" نشرت واشتكت بحرقة عما يجري لأشجار زيتون "عفرين" من قطع واقتلاع أحيانا، أرفقتها بصور باتت بالمئات لبساتين يتجاوز أعمار أشجارها نصف قرن باتت يبابا، اختفى منها الخَضَار، وغابت عنها روح "عفرين" المتمثلة بزيتونها العريق.
اتفق كل من تحدثت "زمان الوصل" إليهم على وصف عملية قطع الزيتون بالجريمة، وبدت جميع الأطراف عاجزة عن فعل شيء يوقف نزيف الزيتون.
"أبو شيرو" فلاح سبعيني من سكان عفرين يتفرّج على المشهد وقلبه ينزف ألما ودموعه لا تتوقف، "كان ابني شيرو بعمر 15 عاما عندما بدأت معه بزراعة غراس الزيتون في الأرض الوحيدة التي نملكها، وتبلغ مساحتها 20 دونما، بعد عشر سنوات حوّل ‘نتاجنا من الزيتون حياتنا من الفقر والجوع إلى الوفرة والهناء، ماذا يمكنني أن أقول، إنهم أولاد ---- أولئك الذين قطعوا أشجاري، لقد ماتت روحي ونفسي عندما ما جرى لها، إنها رمز حياتي وحياة أسرتي، لم يبقَ شيء، تبّا لكل شيء".
هذا بعض ما قاله "أبو شيرو" لنا على الهاتف ونقلناه بتصرّف، لكنه كان مع كل كلمة يشهق وينشج، وكأنه يقترب من لفظ أنفاسه الأخيرة، لم نطل عليه الحديث كي لا نكون سببا إضافيا في آلامه، لكننا سألناه عن الفاعل، فأجاب على الفور "أَترُكُه لربه".
*من المجرم؟
قبل كتابة ما قاله الشهود الذين اتصلنا بهم، نشير إلا أن عداء لم يعد خافيا، وقد يصل أحيانا إلى حد الحقد بين الأطراف المكوّنة للمشهد العفريني اليوم الذي يتشكل من عرب وكرد نازحين ومقيمين، عسكر سوريين وأتراك، نعم، لن نسدّ الشمس بغربال، الحقيقة هي كذلك.
محام كردي يقيم في تركيا على اطلاع بما يجري لزيتون "عفرين" اتهم فصائل الجيش الحر عامة بقطع أشجار الزيتون، وأضاف على ذلك أنها متفقة فيما بينها على تقاسم واردات بيع الحطب، وحاول تأكيد هذا الاتهام من خلال تزويدنا برقم هاتف رجل كردي يقيم بعفرين لتأكيد اسم الجهة الفاعلة.
اتصلنا بالرجل، كان شديد الحزن والغضب معا، وأكد اتهام المحامي للجيش الحر، دون كثير خوض في التفاصيل، وناشد أصحاب الضمائر من الكرد والعرب الوقوف في وجه جريمة اغتيال الزيتون، "إنه رمزنا ورزقنا ومستقبلنا"، وتساءل عن عدم سبب عدم اكتراث تشكيلات المعارضة السورية بهذه الجريمة "وكأنها لا تخصّهم".
عربيان يقيمان في "عفرين"، أحدهما من سكانها الأصلين، والآخر نازح إليها، اتفقا على أن أشخاصا، أغلبهم ملثمون، يستخدمون مناشير آلية لقطع أشجار الزيتون نهارا وليلا "لا فرق"، لكن المقيم فيها أكد أنه شاهد عناصر من "فيلق الرحمن" بين مرتبكي جريمة قطع الزيتون.
*ردّ العسكر
للتذكير، رفض جميع المتحدثين ذكر أسمائهم.
واجهنا قياديا مهمّا في الجيش الحر يعمل في منطقة عفرين بالاتهامات الموجهة للفصائل بارتكاب جريمة قطع الزيتون، وسألناه تحديدا عن دور فيلق الرحمن بذلك، ماذا قال الرجل؟
"إن من يتمتع بذرة شرف لا يقبل بهذا الانتهاك للشجرة الغالية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، لا يرضى أن تغدو حطبا وهي منتجة وخضراء، أؤكد لكم بأن ليس بين مرتكبي هذا الفعل فصيل عسكري من الجيش الحر، ولا دور لفيلق الرحمن في الجريمة".
القائد العسكري أكد وجود عصابات منظمة ومسلحة وصفها بالذئاب، وقال إنها ترتكب هذه الجريمة بهدف التكسّب وإثارة الفتنة القومية بين العرب والكرد، وعن سبب عدم تدخل الجيش الحر لوقفها، أوضح أن ذلك سيوقع الكثير من القتلى لأن هذه العصابات تمتلك رشاشات متوسطة "ولن تستسلم ببساطة" كما أنها تهرب قبل وصول دوريات الجيش الحر.
وأضاف "أغلب رجال هذه العصابة يرتدون الزيّ العسكري، يغطون وجوههم، وهذا يؤشر على أنهم قد يكونون معروفين في المنطقة، لا أستطيع نفي مشاركة بعض عناصر من الفصائل مع العصابة، لكنهم بهذا باتوا مجرمين، وندعو كل من يتعرّف إلى أي عنصر لإعلامنا عنه، لنحاسبه حسب شرع الله".
*الدور التركي
من المعروف أن هناك تواجدا لعناصر من الجيش التركي في المنطقة، يعملون مع فصائل الجيش الحر، غير أن عددهم قليل لا يشكل قوة فاعلة على الأرض رغم أنهم يستطيعون الإيعاز لفصائل المعارضة بالعمل والتحرك بأي اتجاه، أنها الحقيقة حتى لو حاول البعض إنكارها.
ليس هذا وحسب بل اتفق بعض العرب والكرد من خلال صفحاتهم وفي حديثهم مع "زمان الوصل" على اتهام الجيش التركي بتجريف أكثر من بستان زيتون بالآليات الثقيلة لإقامة نقاط عسكرية له في المنطقة، واتهمه أكثرهم بالاشتراك بجريمة قطع الزيتون بشكل غير مباشر من خلال سكوته على الفاعلين وعدم ملاحقتهم.
ضابط تركي تحدثنا إليه نفى قيام الجيش التركي بقطع أي شجرة زيتون، وقال إنهم يسيّرون دوريات عسكرية من أجل حماية "أملاك الناس" لكنه أكد أن المنطقة كبيرة وتضم طيفا واسعا من السكان، "ولا شك أن هناك تجاوزات لا نقبل بها، ونعمل مع فصائل الجيش الحر لضبط المخالفين".
بعد هذا، أين الحقيقة؟ والجواب، إن الحقيقة غائبة، بما أن العمل المؤسساتي مغيّب، ليس هناك قضاء فاعل، ولا توجد جهة تنفيذية قوية موكلٌ إليها ضبط الأمن وحماية الناس وأرزاقهم، الحقيقة الناصعة، إن ضحية هذا الفلتان هو زيتون عفرين، وأن هناك حاجة ملحّة لتفعيل القضاء والشرطة لضبط نزيف أحلام ومستقبل مالكيه.
عبد السلام حاج بكري - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية