يضيف قرار المحكمة الجنائية الدولية اصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني عمر حسن البشير دليلاً جديداً ، على أن المنظمات والهيئات الدولية ليست أكثر من أدوات استعمارية، للتدخل في الشؤون الداخلية للدول والشعوب. واستلاب إرادتها. ومصادرة قرارها لحساب المشروع الاستعماري الغربي، ويكفي أن نتذكر أن الاستعمار والانتداب فرضا على الكثير من شعوب العالم عبر قرارات صادرة عن عصبة الأمم وعن ثم وريثتها هيئة الأمم المتحدة . ويكفي أن نتذكر أيضاً أن تقسيم فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني على ترابها الطهور، تم بقرار من هيئة الأمم المتحدة، التي ظل مجلس أمنها حتى هذه اللحظة يوفر الغطاء الدولي، ويكسب الوقت لمصلحة إسرائيل في كل عدوان ترتكبه ضد امتنا. وآخر ذلك ما جرى في مذبحة غزة. وقبلها في العدوان الأمريكي الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006، ففي كلا هاتين الجريمتين ظل مجلس الأمن مكتوف اليدين يراوغ كسبا للوقت، إلى أن أيقن بأن إسرائيل عاجزة عن تحقيق أهدافها. فتحرك لإصدار قرارات ملتبسة الصياغة تماماً كما هوالحال في قراره 242. الذي مرت عقود دون أن ينفذ لأسباب كثيرة. من بينها إلتباس صياغته، والاختلاف حول «آل» التعريف بين الصياغتين العربية والإنجليزية. وهل ينص القرار على الانسحاب من أرض احتلت أم من الأراضي التي احتلت؟!
وإذا كان الاختلاف حول تفسير القرار 242 أحد أسباب عدم تنفيذه، فأنه ليس كل الأسباب. فمن الملاحظ أن كل القرارات الدولية التي يكون فيها الاعتراف ببعض حقوق أمتنا الإسلامية لا تنفذ. وتظل حبيسة الأدراج. في حين تجيش الجيوش ، وتتوفر كل الأسباب والوسائل لتنفيذ أي قرار ضد أي دولة إسلامية . فقد دمر العراق بقرار من مجلس الأمن. ومثله حدث لأفغانستان. وبقرار أممي حوصرت ليبيا. ويتم التضيق على إيران. وتجري محاولات تركيع السودان. وأخرها قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال رئيسة لأسباب واهية ومفبركة يصنعها رجال يمكن بسهولة الطعن بنزاهتهم وعدالتهم. فمدعي عام المحكمة الجنائية الدولية أوكامبو متهم بقضايا فساد ليس أقلها التحرش الجنسي بأحد العاملات معه. تماماً مثلما هو الحال مع أول رئيس لجنة تحقيق في إغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري المحقق الألماني ملس. الذي أكدت المعلومات تورطه في قضايا فساد كثيرة. وارتباطه بأجهزة استخبارت عديدة. منها الـ C.I.A والموساد . ومن ثم لم يكن غريباً عليه أن يفبرك الوقائع، وشهود الزور أمثال هسام هسام، وزهير الصديق وغيرهما، ممن أنكشف أمرهم. وهو أمر لا نستبعد أن يقدم عليه أوكامبو في قضية الرئيس البشير القائمة على غير أسس حقيقية لا من قانون ولا من واقع. ولا هي بسبب البحث عن الحق وإقامته، فلو كان هدف المحكمة الجنائية الدولية محاكمة مجرمي الحرب لوجهت إتهاماتها فوراً لأولمرت ولفني وبراك وغيرهم من قادة الكيان الصهيوني. الذين ارتكبوا قبل أسابيع قليلة أبشع مجازر الحرب وجرائمها تحت سمع العالم وبصره وأمام شاشات التلفزيون التي نقلت صور آلاف الأطفال والنساء والشيوخ وسائر المدنيين وهم يقتلون بكل الأسلحة المحرمة دوليا. ومع ذلك لم تحرك المحكمة الجنائية الدولية ولا مدعيها العام ساكناً. بل أن المحكمة الجنائية الدولية لم تحرك ساكنا عندما ذبحت إسرائيل أطفال قانا. وهم يحتمون بجنود الأمم المتحدة هرباً من الإجرام الصهيوني في جنوب لبنان. تماماً مثل لم تتحرك هذه المحكمة عندما قتلت إسرائيل جنود الأمم المتحدة في لبنان. وحرقت مقار ومدارس و مستودعات الأمم المتحدة في غزة أثناء ارتكابها لأكبر جريمة حرب ضد المدنيين في مطلع هذا العام. لتضيف اسرائيل بذلك جريمة حرب جديدة سجلها الحافل بهذه الجرائم.
ومثلما لم تتحرك المحكمة الجنائية الدولية ضد قادة الكيان الصهيوني، وهم يرتكبون جرائم الحرب في غزة، وفي غير غزة. وعبر عقود من اغتصاب هذا الكيان لفلسطين وتشريد شعبها. فانها لم تتحرك أيضاً ضد الرئيس الأمريكي جورج بوش وأركان إدارته وهم يرتكبون جرائم الحرب في العراق وأفغانستان أمام كميرات التلفزيون التي نقلت تساقط الصواريخ والقنابل الأمريكية حتى على حفلات الأعراس ورياض الأطفال في هذين البلدين المنكوبين. وهذا كله يؤكد بأن ما يحرك المحكمة الجنائية الدولية ليست جرائم الحرب. وليس البحث عن المجرمين. ولكن ما يحركها أشياء أخرى، لا علاقة لها بالعدالة. بدليل أن التهم التي وجهتها المحكمة للرئيس السوداني لا تنطبق عليه. ولكنها تنطبق بوضوح لا لبس فيه على قادة الكيان الصهيوني، وقادة الولايات المتحدة الأمريكية. فالمحكمة تتهم الرئيس البشير بالترحيل القسري فماذا تقول المحكمة بملايين اللاجئين الفلسطينين والعراقيين والأفغانيين واللبنانيين الذين رحلوا وما زالوا من أوطانهم بفعل الجرائم الإسرائيلية والأمريكية ؟
أما عن تهمة التعذيب والاغتصاب فيكفي أن نذكّر بما جرى من فضائح في سجن أبو غريب و غوانتانامو والسجون السرية الأمريكية. وهي رغم فظاعتها لا تصل إلى مستوى فظاعة ما يجري في سجون العدو الإسرائيلي في فلسطين المحتلة.
أما تهمة قيادة الهجمات ضد السكان المدنيين الموجهة للرئيس البشير فإنها تبدو نكتة سمجة إزاء سلسة الجرائم البشعة بحق المدنيين في فسطين ولبنان والعراق وأفغانستان التي يقودها قادة الكيان الصهيوني واركان الإدارة الأمريكية. وهي الهجمات التي طالت رياض الأطفال وملاجئ العجزة وحفلات الأعراس فأين هي المحكمة الجنائية الدولية من هذه الممارسات الأمريكية والإسرائيلية ولماذا السودان بالذات؟
إن الإجابة على سؤال لماذا السودان بالذات تستدعي منا مراجعة مكونات المخطط الاستعماري الذي يجري تنفيذه في المنطقة العربية والإسلامية ، وأهم أركانه تجزئة المجزء وتقسيم المقسم وفي هذا الإطار جرى احتلال العراق. وفي هذا الإطار يجري العمل على تقسيم السودان بافتعال مشاكل في جنوبه وغربه وشماله. وتحريك عصبيات نائمة وخلق معارضة عميلة وامدادها بكل وسائل الحياة المصنوعة. ووضعها في دائرة الضوء، وهو أمر يجعلنا نحذر من كل قوى المعارضة في بلادنا والتي تستقوي بالغرب عموماً وبالولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، كما تجعلنا نحذر من الكثير من منظمات المجتمع المدني التي تقام في بلادنا بتمويل أجنبي وندعو إلى ضربها بقوة وحزم. قبل فوات الأوان الذي نكتشف فيه أن هذه المنظمات ليست أكثر من خناجر مغروسة في ظهورنا وخواصرنا. وحسنا فعل الرئيس السوداني عندما طرد المنظمات الأجنبية من السودان. فقد أثبتت التجارب أن هذه المنظمات ليست أكثر من أوكار تجسس للعدو. تتستر بأقنعة انسانية لتحقيق مأرب دولها. وهي في الحالة السودانية تقسيم السودان. وهو الهدف الذي يتصدى له السودانيون بقيادة البشير الذي صار رأسه مطلوباً، لأنه يقود السودان بنهج استقلالي اسلامي يرفض التبعية للغرب. بل على العكس من ذلك فإن السودان هو جزء من خط المقاومة الذي يدافع عن حقوق الأمة. وكلها أسباب تجعل من السودان ورئيسه هدفاً مباشراً لقوى الإستكبار العالمي وأدواتها. ومن بينها المحكمة الجنائية الدولية، وهو أمر يجعلنا نقول أن التضامن اللفظي مع السودان لم يعد كافياً. فقد آن الأوان كي تخرج امتنا من حالة ردة الفعل إلى حالة الفعل، وان لها أن تشعر الغربيين بأن سياسة الاستفراد بالدول العربية والإسلامية لن تمر. فالمطلوب الآن عمل اسلامي محسوب أوله التضامن مع السودان ومساندته قولاً وفعلاً ولا بأس من أن يتدارس المسلمون امكانيات انسحابهم من المنظمات الدولية التي صارت سيوفاً مسلطة على رقابهم وصولاً إلى ما هو أكبر من ذلك من أساليب تردع المعتدي حتى قبل أن يفكر بممارسة عدوانه
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية