لطالما كانت "الجزيرة" السورية، ذات خصوصية جغرافية ومناخية وثقافية واجتماعية انعكست على عاداتها وتقاليدها، فميزتها عن سائر مناطق البلاد، وظلت مدنها وأريافها موطنا للتنوع والوحدة والتعقيد والبساطة معاً.
رغم قلة كثافتها السكانية قياساً بدمشق وحلب ومدن الساحل، فهي موطن التنوع الديني والعرقي، الأمر الذي انعكس بضرورة وجود لغات متعددة، كالعربية والكردية والآشورية والسريانية..الخ، وكل هذا التنوع لم يمنع الفئات المتعايشة من الاتفاق على عبارات التهنئة الموحدة بالأعياد والزي التقليدي.
هو تنوع رائع، ربما كسبته "الجزيرة" من اتصالها بأرض العراق الذي تشاركه بنهري "الفرات" و"دجلة" كما تشاركه بـ"كليجة العيد" وطواف الناس والأطفال على المنازل للتهنئة والحصول على الحلوى.
لكن هذه المظاهر الفريدة للعيدين "الصغير" (الفطر) والكبير (الأضحى) بدأت تتراجع منذ بداية القرن الحالي ونهاية القرن الماضي، فتوقفت جماعات الرجال عن زيارة منازل القرية أو الحي واختفت عبارة "عيدكم مبارك" وجوابها "أبرك الأعياد علينا وعليكم" لصالح عبارات جديدة بدأت تنهال علينا اليوم عبر تطبيقات الهواتف الذكية والرسائل وعبر مواقع التواصل الاجتماعية كرسائل إلكترونية جاهزة موحدة في كل سوريا وربما بكل بلاد العرب، مثل "كل عام وأنتم بخير" وقلة قلية يجبرها اهتمامها الديني على كتابة عبارة عيد "أضحى مبارك" أو "فطر مبارك".
الأطفال وحدهم، مازالوا أوفياء لماضي "الجزيرة"، فعلى الأقل لم يتوقفوا عن زيارة المنازل في قراهم والأحياء محطمين بضحكاتهم المنطلقة كتغريد البلابل حواجز خلقتها سنوات الحرب بين فئات السكان، فيفرغون معنى الفرح والسعادة والتسامح على يوم كباقي الأيام ليصبح يوما له معنى البهجة بأرواحهم وأرواح الكبار الذين باتت أكفهم تمتنع عن طرق الأبواب وتبنت شفاههم عبارات تهنئة سوقتها وسائل الإعلام، تهنئ بدوام السلامة لعام قادم، في حين تنتظر أسراب الفرح السائر بالأزقة والدروب عيدين مفروضين في السنة.
ينطلق الصغار مع بزوغ الشمس مرتدين "هدوم العيد" (ملابس جديدة) -كما يسمونها- معتبرين طلوع النور إيذانا بانهيار جميع الحدود بين المنازل فلا يوفرون بيتا حتى من كان سكانه "يزيديين"، بينما تعمل كلمة "عيدكم مبارك" كمفتاح لقلوب الناس، الذين يستقبلونهم بالترحيب والتقبيل وإكرام بحبات الحلوى و"الكليجة" لتستقر في أكياس يحملونها بأكفهم الصغيرة.
لا يستطيع الأطفال، وهم من يعطون العيد معاني السرور أن يجعلوا الكبار يستشعرون خطر غياب هذه العادات لديهم وقطيعتهم مع المجتمع أو فارق المعاني بين "عيدكم مبارك" وبين "كل عام أنتم بخير" أو حتى "عساكم من عواده" التي جاءت إلى المنطقة غازية مع المقيمين بدول الخليج، بل يحتاج هذا الأمر إلى انتباهه من الأهل لجعل أطفالهم يحافظون على تراث جزيرتهم وموروثها الثقافي رغم كل هذا الانفتاح بسبب وسائل الاتصال.
ونقل عن الباحث في التراث "محمد السموري" قوله إن ما يحصل عليه الأطفال من السكاكر يسمى "العيدانية" بخلاف النقود التي يحصلون عليها من الأقرباء، مشيرا إلى حرص سكان "الجزيرة" على الاستمرار بهذا التقليد فيحضّرون العيدانية قبل أيام من العيد بكميات كبيرة لتكفي الأطفال، الذين يرددون "عيدكم مبارك" ليأتيهم الجواب غالبا "عايشين لكل عيد".
كان أطفال العيد تسير بمجموعات كأمواج سنابل حقول الشعير تداعبها رياح ربيعية، تزرع التفاؤل والفرح في نفوس الناظرين، ليعلموا بعفويتهم رجالا وشبابا يفرض عليهم العرف الاجتماعي زيارة جميع البيوت ولا يسقط الواجب إلّا بعذر وجيه.
مقابل هذا التفريط، نجد معظم سكان "الجزيرة" بحافظاتها الثلاثة مازالوا يقاومون إلغاء عادة استقبال التعازي بأحد أفراد العائلة في أول عيد يلي وفاته ولو بأشهر، متجاهلين نهي الإسلام عن ذلك، فيضيّعون فرصة لتغيير الأيام العادية إلى أيام فرح كما يبدل الثوب القديم بجديد يوم العيد.
إذا كان استبدال السكاكر والحلوى بالقهوة المرّة تشويه لمعنى العيد بما هو فرح، فإن ظاهرة استبدال عبارات المعايدة تعتبر استسلاما لغزو اجتاز مياه دجلة والفرات قادما من خارج الجزيرة.
محمد الحسين - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية