أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

غزة... صحوة الأمة وصوت العقل ... حسن بلال التل

رغم ان الناظر الى كل ما يدور في غزة وحولها منذ سنوات وحتى اللحظة هذه يرى أن كل ذلك ما هو الا ضرب من الجنون السافر الذي ما كان للعقل فيه او منه نصيب كبير، الا ان المتمعن في الصورة الغزية الآن يرى ان العقل بدء يحكم الصورة الى حد بعيد وعلى عدة صعد وجبهات.
فمثلا بداية الاسبوع الماضي وبينما كانت المعركة في بدايتها والصدمة لا تزال قاسية وواضحة كتبت كما كتب العديد من الزملاء ما لم نملك الا كتابته في ذلك الحين، حيث كتبنا بكثير من الغضب والحزن والاندفاع الذي حول تلك الكلمات القليلة الى خطاب عاطفي يهز الوجدان قبل ان يخاطب العقول ورغم انني ضد هذه المدرسة من الكتابة عموما الا انه في كثير من الاحيان لا يجد الكاتب امامه الا اللجوء اليها لان وسائل التعبير العقلاني تنقطع به فيشعر انه إن لم يفرغ هذه الشحنات العاطفية على صورة حبر وورق-وان ارسلت به نتائجها الى غياهب الجب- فانه قد ينفجر ويموت، لكن في هذا الاسبوع فان كثيرا من العقل بدأ بالتدخل ورغم ان العواطف لا تزال متأججة، ودواعي هذا التأجج لن تنفرج قريبا فيما يبدو، الا ان المجال اصبح اكبر للتمعن في تفاصيل الصورة الغزية من كافة جوانبها وبالتالي تحكيم العقل وتغليبه على العاطفة بحيث لا تصبح هذه الكلمات التي تخط على الورق مجرد خطاب عاطفي لا يفلح في شيء تماما كخطابات الكثير من الزعماء العرب وبيانات اجتماعاتهم التي لا تزيد على كونها قصائد منمقة لاتجدي شيئا ولا حتى على مستوى اضافة معلومة جديدة الى متلقيها، وهذه الاخيرة هي احدى الغايات الرئيسة لاي مادة صحفية فكل صحفي وكاتب يعلم ان ما يكتبه ما هو الا تنظير قد يفلح في حفز التغيير وقد لا يفلح لكنه ابدا ليس منجلا او معولا او ساعد عامل او مقاتل، لذا فان اضعف الايمان هو اضافة معلومة او فائدة جديدة وحقيقية للمتلقي.
وحتى لا نستطرد بعيداعن الموضوع، فالمسألة التي نطرقها هنا هي تغليب العقل في المشهد الغزي الذي ألزم الجميع بان يحددوا مواقعهم ومواقفهم وسط هذه المعمعة من الجعجعة التي لم تنتج سوى قليلا جدا من الطحن والذي يبقى بادرة خير برغم شحه، فعلى الصعيد العربي وعلى الرغم من الكثير من التهاون الرسمي الا انه وعلى المستوى الشعبي رأينا لاول مرة مظاهرات وتحركات شعبية ضخمة في دول وعلى ايدي شعوب عربية لم تتحرك قبل هذا ولا حتى لأجل هو اكبر من هذه المسالة، وهذا في حد ذاته دليل واضح على حجم التحول الكبير في طبيعة العقل والنفسية العربية التي تربت منذ زمن على كثير من الاستسلام واللامبالاة ونظرية (دفع البلى) بحيث ان اقصى ما يمكن ان يصدر عنها هو دعاء شيخ الجامع والاكتفاء بعدم الاعتراض على التبرعات الرسمية نحو اي شقيق عربي اخر في محنة، من منظور ان المال هو اغلى ما نملك وان الدولة ان دفعت فكأن الشعب (دفع وزيادة) لكن هذه المرة لم يعد التحرك مجرد تحرك شعبي عارم وصاخب فقط ولم يتجاوز الخطب الى ان وصل الى التبرعات النقدية والعينية والتبرع بالوقت والجهد والدم في سبيل اي شيء وكل شيء قد يخفف من المعاناة والمأساة الغزية فحسب، بل ترجم الى ما لم نره من قبل حيث هاجمت الشعوب ساستها وفي بعض الاحيان قادتها جهارا وضرب النواب بنعالهم وكشفوا رؤوسهم تحت قباب البرلمانات وشتموا حكوماتهم وقامت محطات تلفزة في دول اخرى باعلان الحداد أوبث القرآن الكريم على فترات بل وحتى وقف عرض البرامج الاعتيادية واستبدالها باخرى تخاطب الواقع المعاش وتكثيف بث البرامج والأغاني القومية والوطنية حتى على شاشات توصف بالهابطة، وبمقدار ما ان هذه الامورة بسيطة وصغيرة وقد توصف بالتافهة قياسا إلى ما يجب فعلة فانها تعد سابقة ومؤشرا هاما على التغيير والاصطفاف الشعبي الى جانب قضايا الامة.
وعلى الصعيد المحلي رأينا موقفا موحدا على كافة الصعد شعبيا ورسميا وبكل الاطياف بدءا من موقف جلالة الملك وافراد العائلة المالكة الذي كان واضحا ويعطي الدعم الكامل لاهلنا في الداخل وعلى كل المستويات الممكنة، مرورا بالموقف الحكومي الذي اوضح التضامن الكامل قولا وفعلا وبكل الاجراءات العملية الممكنة، بدءا بتقديم الدعم المادي قبل المعنوي الذي تمثل بتسيير قوافل المساعدات برا بشكل يومي، اضافة الى خرق الحصار الجوي وارسال طائرات انقاذ الى الداخل الغزي واستقبال الجرحى والمصابين، اضافة الى الجهود الدبلوماسية الضخمة التي تبذل لوقف العدوان اولا، لكن كذلك لادخال مستشفيات ميدانية الى القطاع وفتح الحدود لادخال اكبر عدد ممكن من الجرحى والمصابين.
وعلى غير العادة رأينا موقفا نيابيا ايجابيا ومتحديا بشكل صارخ تجاوز مجرد الكلمات والخطب الرنانة على غير العادة ووصل الى حدود دوس واحراق العلم الاسرائيلي تحت القبة ورفع اليافطات المنددة باسرائيل، وكذلك وصل الى البدء بمذكرة نيابية لمشروع قانوني يلغي معاهدة السلام وهي امور لم نعهدها من برلماننا ولا نوابنا قبلا، والذي يوازي هذا اهمية هو ان الحكومة لم تصدر اي رد فعل سلبي تجاه هذه المسائل ولم ترفضها او تستنكرها بتاتا وهو إن لم يعني اعتناق هذ الافعال فقد عنى على الاقل القبول بها وربما الرضى عنها، وهو ما يصب ايضا في خانة اليقظة الاممية التي طالت كل الامة العربية قبل الاسلامية
اما على الصعيد الشعبي فحدث ولا حرج، وقد يكون المثال الاوضح هو ما جرى يو الجمعة الماضية حيث شاهدنا اعلام الاخوان المسلمين ترفرف جنبا الى جنب مع الرايات الشيوعية الحمراء، وصور كتائب القسام وصواريخ المقاومة الى جانب صور احمد سعدات -فك الله اسره-، وكل هذا تحت مظلة من القبول الرسمي الذي وصل حدود الرعاية بحيث لم نر او نسمع الا بالحدود الدنيا من ردود الافعال الحكومية والتي لم تجاوز حدود التنظيم وكبح جماح بعض الخارجين عن السرب، وهذا بشهادة من مشاركين ومنظمين لهذه المهرجانات والفعاليات وهو ما يؤيد ما قلناه حول مسألة تغليب العقل في الصورة العامة بالدرجة الاولى وكذلك مسألة اليقظة العربية متعددة المستويات.
اما فيما يتصل بالداخل الفلسطيني فلم تكن الصورة يوما اوضح منها اليوم فلو اعتبرنا ان فتح وحماس هما عدوان بالمفهوم المطلق للكلمة ولو اعتبرنا ان خط فتح هو النفيض المباشر للمقاومة، وهذا ما لا يجوز مجرد التفكير فيه، لكن لو اعتبرنا ذلك صحيحا بصورة ما فهذا لا يجيز لفتح والسلطة الفلسطينية ان يعادوا اهل غزة وشعبها، كما لا يجيز لهم تبرير موقف العدو من اخيهم الشقيق سواء في صفوف حماس او في صفوف الشعب الغزي، لكن للاسف فان هذا ما حصل وهو الذي جعل من كل فتحاوي وكل داعية سلام وكل رافض لفكرة المقاومة على اي اساس كان وكانت، يعيد حساباته الف مرة ويعيد النظر فيما يجري على الساحة بصورة عقلانية بعيدة عن العاطفة والتعصب الاعمى، وهو ايضا يشير الى ان الصراع هنا ليس صراع فتح وحماس في سبيل القضية الفلسطينية بل هو صراع معسكر المقاومة امام معسكر الشيطان ومن باع روحه له في سبيل مكاسب مادية، وما غزة الا محطة من محطات هذا الصراع الذي قارب على الانفراج، وعلى مستوى اكبر من ذلك فقد سمعنا جميعا تصريحات وزير دفاع العدو بعد اليوم الثالث للمعركة والتي اوضحت ان ما ارادوه من حماس لم يتحقق، ووصلت بهم الامور الى ان قالوا ان العدو قد استعاد توازنه وقبل يومين سمعنا تصريحات المحلل السياسي لصحيفة معاريف الذي اعترف ان الغزو البري لغزة ليس الا لخلق موقف تفاوضي اقوى عندما يحل وقف اطلاق النار، ورغم ثقة حماس من هذا الواقع الا انهم في لحظة ما عرضوا وصراحة القبول بالسلام مع اسرائيل في سبيل وقف المجزرة، وهو ما ادارت له اسرائيل والولايات المتحدة اذنا صماء، في دلالة على ان ما يريدونه هو الدم لمجرد الدم وانهاء حماس من الساحة كقوة مقاومة رافضة، لكن الرياح اتت بغير ما اشتهته سفنهم
اقول مرة اخرى ان هناك الكثير مما لا اقبله كفرد في واقع حماس وافعالها سواء في الداخل او الخارج ومن ضمنه كثير من الامور التي استعملتها اسرائيل حجة لشن هذه الحرب، رغم انني مع حماس الفكر والفكرة قلبا وقالبا، لكن ليس هذا وقت الحساب والعتاب من قبل اي كان بل هو وقت المواقف والافعال وكذلك هو وقت يجب ان تكون فيه فلسطين قبل الجميع وفوق الجميع
عاشت فلسطين... وعاشت المقاومة... وعاشت غزة وبوركت دماؤها التي مع كل قطرة منها تصفعنا صفعات تقودنا نحو اليقظة ونحو انتصار القلب والعقل معا.

(108)    هل أعجبتك المقالة (101)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي