أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

"شهرزاد الحصار".. مدونة تروي يوميات المحاصرين في أحد أقبية الغوطة

شهرزاد وأطفال في أحد اقبية غوطة دمشق - زمان الوصل

من قبو معتم يفتقر لأدنى وسائل الحياة وتحت نافذ مكسورة الزجاج اعتادت السورية "نيفين الحوتري" تدوين يومياتها التي تصف فيها أحوال المحاصرين داخل القبو الذي حوصرت فيه مع طفليها وعشرات العائلات في الغوطة الشرقية، تحت وطأة البرد والجوع والقصف وموت الضمير العالمي، وكان خروجها من هذا الكوكب تحت الأرضي بمثابة ولادة جديدة، غير أنها تعلمت أن تنتظر وروداً لم تزرعها بعد كما عنونت أحد منشورات صفحتها التي بلغ عدد متابعيها عشرات الألوف. 

عملت "الحوتري"، وهي خريجة معهد إدارة أعمال، قبل الحرب كمديرة لأحد المشاريع التجارية وانحصرت اهتماماتها ببناء قدراتها ومهاراتها والنجاح في عملها وقبل كل شيء الاهتمام بأسرتها.

وتروي لـ"زمان الوصل" أنها مع بداية الحرب وحصار الغوطة وجدت أن منصة "فيسبوك" تتيح لها بعض التواصل مع العالم الخارجي الذي كانت بحاجة ماسة للتواصل معه. 

بعد نزوحها الأول بدأت "الملهمة السورية" كما يفضّل ناشطون تلقيبها تدرك بأن التدوين الذي هو وسيلة هامة للتوثيق من أجل أطفالها مستقبلاً أولاً، ولكل شخص خارج الحصار لن يبقى بأمان على صفحات دفتر يومياتها الخاص، وأنه لابد من النشر على نطاق أوسع حتى يتم الحفاظ بهذه التوثيقات المتواضعة من خلال عدد أكبر من الناس، ولذا بدأت تكتب ملاحظاتها وبعض يومياتها بشكل أكبر ومتزايد مع تزايد الأحداث المؤسفة حولها.

تعرضت "نيفين الحوتري" 38 عامًا، للنزوح أول مرة قبل سنتين تقريباً عندما أُجبرت على مغادرة منزل عائلتها بسبب تقدم النظام واحتلال المنطقة التي كانت تقطنها وبتاريخ 18 شباط فبراير/2018 اشتد القصف بشكل متزايد، ولكن لم تكن فكرة النزوح أو النزول للأقبية مقبولة لديها لعدم توفر ملجأ صالح للعيش، فكل الملاجئ كانت عبارة عن أقبية غير مخدّمة، ولكن كان لا بد مما ليس منه بد، إذ اضطرت للنزوح في اليوم التالي لاستهداف منزلها ليلاً إلى أحد الأقبية الترابية، وروت محدثتنا التي لقبها موقع "Medium" الأمريكي بـ "شهرزاد الحصار" أن القبو الذي اجتمعت فيه مع عائلتها كان ترابياً وغير مجهز وكان ثمة شباك في أعلى الحائط يطل منه النور في ساعات الصباح وكانت هذه الكوة وسيلتها الوحيدة للتواصل مع العالم الخارجي وتردف قائلة: "عندما كنا نُستهدف بقذيفة قريبة كان هذا الشباك ينقل لنا الأتربة وبعض الشظايا من الخارج.. وعندما يهدأ الجو قليلاً كان ينقل لنا بعض الصفاء المؤقت".

وتتابع المدونة "الحوتري" واصفة حياة المحاصرين داخل القبو كما عايشتها، حيث كانت الستائر القماشية هي ما يفصل بين العائلات داخله، وكان المكان المخصص لها وهو بمساحة 3×3 متر يضم أيضاً 5 نسوة أخريات وخمس أطفال ومحاطاً بستائر من كافة الجهات، لذلك كان هذا الشباك العالي محاولة فاشلة لرؤية الشمس التي افتقدها المحاصرون داخل الأقبية.

تنقلت "نيفين" مع أطفالها بين 4 أقبية بسبب تقدم النظام في تلك الفترة وفي كل قبو كانت النافذة العلوية هي أملها بيوم مشرق معاكس لعتم الأقبية.

وتستذكر محدثتنا أن إحدى جاراتها في القبو كانت تبكي طوال الليل حتى عندما يهدأ القصف، وكانت تفتح الستارة التي تفصل بينهما وتسألها بلوعة: ما العمل اذا تقدم النظام باتجاهنا؟ وكانت هذه الجارة تقول بأن إجاباتي تريحها وتعطيها بعض الأمان.

وتردف الناشطة الغوطانية واصفة هذه الجارة التي تغير شكل جسدها بشكل فارق أثناء وجودها في لقبو، مضيفة أن جميع المحاصرات فقدن بعض الوزن داخله، ولكنها هي فقدت الكثير من الوزن مع شحوب الوجه وكان يظهر عليها الخوف الشديد دائماً.

وتسرد محدثتنا لحظات من الرعب عاشتها مع المحاصرات الأخريات عندما جاء أحدهم في اليوم الأخير إلى القبو وصرخ "الأمن اقترب إهربوا" وكان ذلك اليوم -كما تقول- أشبه بيوم القيامة مليئاً بالخوف والرعب لدى الجميع قبل أن يغادروا المكان دون وجهة واضحة، وعلمت بعدها أن جارتها غادرت فيما بعد الغوطة باتجاه دمشق عبر المعابر "لازال شعور الحزن ينتابني كلما تذكرتها.، فلا هي نالت الحرية بعد ماعانت من خوف وصبر.. ولا بقيت بمنزلها مع عائلتها.. للأسف".

في آخر يوم قبل إعلان الهدنة واتفاق التهجير القسري كثّف نظام الأسد وحلفاؤه القصف ليلاً.. قذائف، راجمات صواريخ، عنقودي، براميل كلور، واستهدف البناء المجاور للقبو الذي تتواجد فيه "نيفين الحوتري" التي تصف ذلك اليوم بالتجربة المؤلمة التي تتعادل ألم ليالي الشهر كله، وعندما تأكدت مع المحاصرين معها أن هناك هدنة كانوا –كما تقول- أمام مشاعر مختلفة ومتناقضة، ومنها شعور الارتياح بخلاصهم من القصف، وشعور الاقتلاع من الجذور عبر التهجير القسري، وأمضت –كما تقول- يوماً كاملاً وهي تفكر بأن كل لحظة هي اللحظة الأخيرة لها في الوطن. 

وتردف المدونة نيفين أن لحظات المواجهة الأولى مع باصات التهجير كانت قاسية جداً، كاشفة أنها استعانت بنظارة شمسية لإخفاء دموع ساخنة تحرق عينيها، كانت طوال الأيام التي سبقت الخروج تخبر أولادها بأن الغد سيكون أفضل ولا تذكر أمامهم ما تعرضوا له من نزوح وتهجير قسري، ولكنهم -كما تؤكد- كانوا يعلمون في قرارة أنفسهم بأنهم أُجبروا على ترك منزل ذكرياتهم الأولى، ترك كل شيء خلفهم والمغادرة بحقيبة واحدة.

وعبّرت محدثتنا عن سعادتها باستقبال أهل الشمال الذي أبدل غربتهم بوطن وأعطاهم السكينة بعد العذاب الذي تعرضوا له خلال 27 ساعة ونصف قضوها في الحافلات بين الغوطة وقلعة المضيق"، مؤكدة أن النظام تعمد إبقاء المهجرين دون طعام أو ماء، ودون استراحات طوال الطريق وأجبرهم على المرور ببعض البلدات التي استقبلهم مؤيدوها بالشتائم والإهانات والتعدي على الباصات- كما أظهرت العديد من مقاطع الفيديو، ولكن استقبال أهالي المناطق المحررة كان كفيلاً بمسح التعب عنهم ذلك اليوم.

وتابعت أن أغلب أبناء الغوطة باتوا اليوم يتنفسون هواء الحرية بدون حصار بين الأهل والأحبة، ولكن جريمة التهجير القسري لازالت غصة في قلوبهم ولازالوا يذكرون بعض الذكريات عن المنزل والغوطة بكل لحظة.

ودعت محدثتنا للتعلم من الأخطاء وتصحيح المسار، مضيفة بنبرة تفاؤل أن "الثورة لا تموت وعلينا مراجعة الدروس لنصل للنصر القريب.. ورودنا لن تموت وستزهر يوما ما بهمتنا".

فارس الرفاعي - زمان الوصل
(172)    هل أعجبتك المقالة (150)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي