وقف "أبو محمّد" على بعد عدّة أمتار يراقب حديثنا مع مجموعة من القرويين من أبناء دير الزور، الذين جمعتنا الصدفة بهم أثناء زيارتنا لسوق "البالة" بمدينة "الباب" السوريّة 38 كيلومتراً شمال مدينة حلب.
كانت كؤوس الشاي تكاد أن تفرغ ونهمّ بالرحيل حين تقدّم أبو محمّد بقامته الطويلة نسبيًا، وجسده النحيل، ممسكا بيد ابنه الذي لا يبدوا أنّه تجاوز العشر سنوات بعد، وطلب الإذن بإبداء رأيه بحديثنا الذي تمحور حول الأجسام المعارضة كالائتلاف الوطني ومجلس العشائر، ثمّ تابع وكأنّه لا ينتظر إذناً من أحد "عن أيّ مجالس وسياسيين تتحدّثون؟ وعن أيّ مشايخ؟ أين كان هؤلاء عندما بدأ التحالف حملته العسكريّة على دير الزور؟ انا وعائلتي لم نصب بأذى والحمدلله، ولكنّي رأيت من دفنوا تحت ركام منازلهم، رأيت الطفل وقد انشطر إلى نصفين، رأيت الأشلاء والجرحى الذين لم نستطع حتّى إسعافهم، وهم يلاقون مصيرهم الحتمي، لم نكن بحاجة مال حينها، كنّا نريد أيّ منفذ للهروب، وأيّ وسيلة نقل تنقلنا خارج دائرة الموت".
كنت أراقب قسمات وجه "أبو محمّد" التي اختلطت بين الحزن والأسى والغضب والسخرية، لم أعد أسمع صوت "أبو محمد"، أو إن صح التعبير، لم أعد أركّز على ما كان يقوله الرجل، فقد غصت في لغة جسده وقسمات وجهه، أراقب كيف أفلتت يده يد ابنه الصغير، وبدأ يمسح بهال العرق المتصبّب من وجهه في يوم شتوي مشمس، وكأنّ شمساً صيفيّة وجهت أشعّتها على وجه ذلك الرجل، دموعه كانت سجينة في مقلتيه كلّما أرادت الخروج ازداد محاولات سجنها وازداد عرقه تصبّبا، كانت يداه ترتعشان وشفتاه تنطلقان بالحديث، وكأن ما يريد أن يقوله، قد حفظه عن ظهر قلب من خلال سيناريو متقن كتبه وحفظه مسبقا.
أفقت من شرودي في تفاصيل الرجل، لأعود لحديثه الذي ختمه "من قال لكم إنّ شيوخ العشائر مازالوا شيوخاً، من قال لكم إنّ أكبر شيخ عشيرة يستطيع الآن أن يجمع حوله عشرة رجال صادقين في الداخل السوري، ومن قال لكم إنّ أبناء العشائر مازالوا يثقون بشيوخهم، لا أبداً شيخ العشيرة الذي يهرب ويترك عشيرته تواجه الموت المحتوم ليس بشيخ أبدا، ثمّ انظروا حولكم، ألا ترون أنّ كرام القوم أصبحوا يتسوّلون ليطعموا أبناءهم؟ الا ترون أنّ آجار المنزل أصبح يساوي ثلاثة أضعاف راتب أيّ موظّف؟ الا ترون تضخّم الأسعار؟ انظروا جيّداً، فالمهندس أصبح بائع خضرة، والمدرس أصبح بائع تبغ، والمحامي يبيع الثياب المستعملة في سوق "البالة" والموظّف أصبح بلا عمل أو دخل، أين الائتلاف الوطني والحكومة المؤقتة التي تتحدّثون عنها من كل ذلك، من سيثق بهم بعد كل هذا الذل".
أدار الرجل ظهره مغادراً وهو يتمتم "أنا وضعي المادي جيّد، ولكنّي أشعر بالناس، وأتألّم لألمهم، قولوا هذا للشيوخ والسياسيين".
تقول الإحصائيّات التي نفذها مكتب الإحصاء في المجلس المحلي لمدينة "الباب" إنّ عدد سكان المدينة دون القرى والنواحي التابعة لها كان قبل انطلاق الثورة السورية حوالي 120 ألف نسمة غادر أكثر من نصفهم، فيما وصل عدد سكّان المدينة حاليّاً إلى 141068 نسمة موزّعين على 22458 عائلة منهم 24689 أطفال دون سن العامين و23729 طفلا ما بين سن العامين وستّة أعوام فيما وصل عدد الأطفال ما بين سن السادسة والثامنة عشر إلى 32333 طفلاً، فيما بلغ عدد المعاقين 1858 معاقاً.
وفي حديث خاص لـ"زمان الوصل" قال رئيس مكتب الأحوال المدنيّة في المجلس المحلي لمدينة "الباب" المحامي "عبد الحميد الضاهر" إنّ المجلس المحلي يسعى جاهداً لتحسين الظروف المعيشيّة للمدنيين في مدينة "الباب"، إلا أنّ عدد المشاريع الإنمائيّة التي تحتاج إلى أيدٍ عاملة قليلة جدّا، فقد استطاع المجلس توفير نحو 300 فرصة عمل وهذا لا يكفي أبداً، فواردات المجلس ضعيفة جدّاً والأمر يحتاج إلى مشاريع إنمائيّة مدعومة من منظّمات عالميّة كبرى، فضلاً عن مشاريع إعادة إعمار لمدينة "الباب" التي تدمر أكثر من 60% منها ما بين تدمير جزئي وتدمير كلّي.
وتابع إنّ الأوضاع المعيشية للمدنيين بالفعل كارثيّة أكثر مما نتصوّر، ولولا تطوّع بعض المدنيين في جهاز الشرطة المدنيّة والأمن العام لكان الوضع كارثيّاً أكثر، ولهذا يجب العمل سريعاً على تمويل المشاريع الإنتاجيّة عن طريق المجلس المحلّي، لسدّ حاجة السوق وتأمين فرص عمل أكبر.
وترى بعض المنظّمات المحليّة المهتمّة بشؤون النازحين أنّه من الصعب في ظل عدم توفّر الدعم الكافي، تخصيص سلال إغاثيّة ومساعدات شهريّة لجميع النازحين في تلك المنطقة، ولذلك فإنّ أغلب المشاريع هي تعليميّة أو تأهيليّة، وتحسين الأوضاع المعيشيّة يتطلب افتتاح مشاريع من شأنها توفير فرص العمل لهم.
ويبقى السؤال هنا، هل من منظّمات جادّة تريد العمل في الداخل السوري لأجل الإنسان والإنسانيّة، أم أنّ المنظّمات أُنشئت لأهداف سياسيّة بحتة، والدول الداعمة لتلك المنظّمات تديرها بحسب اصطفافات السياسيّة لا حاجات الإنسان.
سامر العاني - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية