لا أستطيع فهم الطريقة التي مكنت ابن مدينة "عربين" في الغوطة الشرقية المحاصرة من التنبؤ بقرب أجله كما لو أنه اختاره يومه بنفسه، في الدقائق التسعة عشر الأخيرة من ليلة الأحد الماضي كتب "محمد شبعا" على صفحته على "فيسبوك": "أصدقائي بعد هذه السنوات الطويلة يمكن القول إن كل شيء خاننا، لسنا أهل باطل صدقوني بل نحن خير جند الله، وسيذكرنا التاريخ كأعظم شعب خانه العالم أجمع لا أظن أن تشرق الشمس علينا انتهت مهمتنا وبدأت مهمتكم لا تيأسوا ولا تقنطوا من رحمة الله ..السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الغوطة الشرقية لم يعد للحديث بقية".
وفي صباح اليوم التالي نعاه مقربون على الحساب ذاته، مؤكدين أن محمدا قضى في غارة جوية على مدينة "عربين" ودفن فيها.

بعبارة "لم يعد للحديث بقية" وقع منشوره الأخير بعد أن اعتاد الختم بمقولة "للحديث بقية"، ويأتي هذا المنشور بعد يوم واحد فقط من تقدم قوات النظام وتمكنها من شطر الغوطة بعد حملة من القصف الجوي والمدفعي غير المسبوق على مدار ثلاثة أسابيع.
وبعبارة "كل شيء خاننا" استهل الناشط الراحل كلامه ولكن ثمة شيئا لم يخن أهل الغوطة، بل كان وفيا على الدوام لعله التراب في الغوطة هو ما يموتون لأجله وهو ما بقي لهم.
ففي حفر ترابية تحت الأرض تعيش مئات العوائل فيما يسمى أقبية ترابية رغم انعدام مقومات الحياة فيها، إلا أنها قلصت من عدد الضحايا بعد عجز العالم كله عن التوصل لتهدئة، فكم كان وفيا هذا التراب لدرجة أن الخروج من القبو لإحضار بعض الطعام أو استنشاق بعض الهواء ينطوي على مخاطرة كبيرة.
تقول (ضحى،34 عاما وأم لثلاثة أطفال) "أعيش في هذا القبو المظلم مع مئتي شخص آخرين معظمهم من الأطفال والنساء، لا نسمع سوى صوت القذائف وبكاء أطفالنا خوفا وجوعا نعيش على حريرة طحين الشعير (طعام) بدون ملح أو سكر والمياه شحيحة جدا لا يتوفر سوى حمام واحد لمئتي شخص هنا، حتى الهواء لا يكفي أي محاولة للخروج من هنا لجلب بعض الطعام أو المياه أو حتى استنشاق الهواء هو انتحار".
وتعيش الغوطة حصارا خانقا منذ العام 2013، ولكن المسطحات الترابية من مروج وبساتين دعمت من قدرة المحاصرين على الصمود لسنوات، وهو ما لم يتوفر لمحاصري حلب الذين هجروا منها بعد شهور من الحصار، فكان التراب وفيا معطاء للغوطة وأهلها حتى إنه من التراب ذاته صنع أطفال "داريا" الحلوى يوما قبل أن يتذوقوها بالفعل في إدلب بعد تهجيرهم في الباصات سيئة الصيت، والتي يخشى بعض الأهالي أن ينتهي مصيرهم إليها في سيناريو تهجير قسري متوقع لنحو أربعمئة ألف نسمة يعيشون في الغوطة الشرقية.
فيما يفضل آخرون الموت على الترحيل مثل (محمد أمين- 23 عاماً)، والذي يعمل كمسعف في فريق الدفاع المدني في مهمات الإخلاء والدفن يقول "لهول ما رأيت تآلفت مع الموت وأصبحت عتبة الخوف مرتفعة عندي كل يوم أدفن عشرات الجثامين بعضها لأصدقائي وأقربائي، أتمنى أن أدفن هنا بجوارهم بدل الخروج، فالموت هنا هو الحال الطبيعي والمتوقع، أما البقاء على قيد الحياة ليوم آخر فهو المستغرب".
وعن كيفية تدبر أمور الدفن يضيف الأمين "لدينا مقابر مؤلفة من طبقات قد تصل للسبع طبقات نصنعها من التراب والطوب لاستيعاب الوفيات اليومية من ضحايا القصف".
وعما إذا كان يتوفر لديه حصيلة لضحايا الحملة الأخيرة يجيب "لا أعلم ولا يهمني ...جعلونا نحصي الأحياء بدل الأموات"، وهو إذ يقول كلامه يؤكد مرة أخرى كم كان التراب ملاذا آمنا.
كم هو وفي هذا التراب لأهله وكم أتعبهم وهم يقاتلون من أجله يحتضن أحبتهم ويصير أجسادهم جزءا موحدا مع الوطن فيما تصيرهم الماكينة الإعلامية أرقاما.
وبينما يعجز العالم عن إنقاذ أهالي الغوطة الشرقية يحتضنهم ترابها أحياء في الأقبية أو أمواتا في المقابر ومرابطين يتحصنون به على الجبهات، كم أتعبهم وأحبوه، وحده التراب لم يكن ليخونكم يا محمد لعلك كنت ستوافقني لو كان للحديث بقية.
كريمة السعيد -زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية