أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

كوميديا اللوحات التمثيلية: من نوع فني سوري... إلى سلاح لبناني بيد الخصوم! ... محمد منصور

في نهاية ستينيات القرن العشرين... أحدثت فكرة بسيطة وملهمة ابتدعها الفنان السوري عمر حجو من خلال عرض قدمه في المركز الثقافي السوفييتي بدمشق، وأطلق عليها اسم (مسرح الشوك) ضجة كبرى في تاريخ المسرح السياسي السوري، دفعت الفنان دريد لحام لتبنيها مع رفيق دربه نهاد قلعي، ولتقديم ثلاثة عروض مسرحية تقوم على ديكور بسيط، ولوحات انتقادية مكثفة وسريعة وناقدة، تقول ما لديها بجرأة ويشارك في تجسيدها أبرز نجوم سورية. هذه الفكرة القائمة على تحطيم وحدة العرض المسرحي، وتحويله إلى مجموعة لوحات واسكتشات سياسية ناقدة... لاقت الكثير من الاهتمام، وأثارت جدلا واسعاً، لأنها أرادت أن تلامس الحياة اليومية والهم المعاش للمواطن بتكثيف وبلا مقدمات ومطولات... وقد تجدد هذا الشكل الذي يحمل في طياته أسلوبا وفكراً... في كوميديا التلفزيون في الثمانينات، حين تبناها الفنان ياسر العظمة في سلسلته الشهيرة (مرايا) ثم ولدت بعد ذلك تجربة أخرى في الدراما السورية، تمتعت بنبض شاب في استلهام هذا الشكل، من خلال سلسلة (بقعة ضوء) التي أطلقها الفنانان الشابان باسم ياخور، وأخرج أجزاءها الأولى الليث حجو ابن الفنان عمر حجو... وتميزت بالنقد الاجتماعي والسياسي الساخر، الذي انصب بدوره على رصد الحياة اليومية السورية وأحلام ومعاناة المواطن السوري... ضمن سياق فني كان يعلو ويخفت تبعاً لجودة ما يكتب أساساً...
وبعد سنوات تحول هذا الشكل، إلى حالة إنتاجية تفرخ الكثير من الأعمال المشابهة التي استسهل بعضها كتابة اللوحات القصيرة وإنتاجها، أمام أعباء كتابة مسلسل متكامل، وحتى لو جاء على طريقة الحلقات المتصلة- المنفصلة!
الشكل الفني ذاته، كانت تتبناه المحطات التلفزيونية اللبنانية، ليس بعقلية الإنتاج الفني الدرامي القائمة في التجربة السورية، بل بعقلية الاستهلاك البرامجي الذي جعل هذا (الفن) نوعاً برامجياً قائماً بذاته، ومرتبطاً إلى حد كبير بخصوصية الحالة السياسية اللبنانية، التي تنعكس مباشرة في وسائل الإعلام وأداء المحطات التلفزيونية.
لكن من يتأمل اليوم حال البرامج الكوميدية التمثيلية التي تبثها المحطات اللبنانية، والتي كان أشهرها (بسمات وطن) على قناة (أل. بي. سي) قبل أن تقدم قناة 'المستقبل' (لا يمل) وقناة 'الجديد' (إربت تنحل)... سوف يدرك كيف تحولت كوميديا اللوحات التمثيلية، من نوع فني، إلى سلاح لمحاربة الخصوم، وتكريس حالة الاصطفاف السياسي لكل فريق وحزب وتيار على حدة!


لقد خسرت هذه البرامج وسواها في السنوات الأخيرة البوصلة الحقيقية التي أوجدتها في البداية، حين كانت موجهة للحديث عن الهم المعيشي الراهن للمواطن اللبناني أو العربي أحيانا... وصار همها الأوحد خدمة التيار السياسي الذي تنتمي إليه كل قناة، من خلال شتم التيارات الأخرى، وتسفيه زعمائها ولا أقول رموزها... لأنه في هذه الحالة التناحرية الطاحنة، يتحول الجميع إلى أطراف في معركة واحدة، هدفها رد الصاع صاعين، وشن الهجمات والهجمات المضادة، بكل الأشكال والطرق المشروعة وغير المشروعة... وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما زالت زيارة الجنرال ميشيل عون الأخيرة إلى سورية، مادة للتراشق التهكمي السافر بين برنامج (لا يمل) على 'المستقبل'... وبرنامج (إربت تنحل) على تلفزيون 'الجديد'... فالأول يريد النيل من الزيارة والبلد المضيف بأي وسيلة، والثاني يريد إظهار الفريق الذي يشتم الزيارة في مظهر هستيري منهار مما لاقاه الجنرال عون من احتفاء رسمي غير مسبوق ويليق بملوك.

 وفي خضم هذا السجال الكيدي، ينسى الجميع أن هناك حياة اجتماعية ويومية تعرض الكثير من الصور والحالات التي تعبر عن وجع المواطن، أو عن جوانب الخلل والقصور المختلفة، التي تستحق النقد وتسليط الضوء، لأنها قد تمس المشاهد اللبناني بكافة فئاته، وبغض النظر عن انتمائه الطائفي أو اصطفافه السياسي!
ومشكلة هذا التوجه الذي يضع الفن في خدمة التناحر السياسي، أنه يلعب لعبة عض الأصابع ليس مع الخصوم فحسب... بل مع الأداء الفني ذاته. فهم يستمرون في الردح على حساب طرافة وفنية الحالة، ويجترون الأفكار السخيفة على حساب البحث عن العميق والجديد في بناء لوحة كوميدية ممتعة تستحق الاحترام... والسبب أن كل طرف يريد أن يستمر كي يرد على الطرف الآخر، وكي تكون له الكلمة الأخيرة في توجيه الشتيمة... والأسوأ من هذا التهافت الفني، سقوط المعايير الأخلاقية التي تحكم وظيفة الفن النبيلة عموماً... فإغراء الانتقام من الخصم السياسي، قد يقود الفن هنا إلى الحط من كرامة البشر، وإلى إطلاق الأحكام التعميمية والاستفزازية، التي تكرس حالة ثأرية تعلي من غريزة الانتقام، في وجه الإيمان بالحوار، وبحق الآخر في الاختلاف باحترام... ونستطيع القول إن البشر وضعوا للفن الدرامي هذه المعايير النبيلة، لأن الفن التمثيلي أخطر تأثيراً من تعبير إنسان عن رأيه في حديث مباشر، أو كتابة بيان شخصي... فهو يملك قدرة أكبر على اختزال الفكرة وتعميمها في الوقت نفسه، وعلى تحويلها إلى صورة معبرة عن شريحة وحاملة لتوجه... ومن المؤسف أن ننحدر بالتعبير الدرامي إلى هذا الدرك السياسي الذي يجعل الفن يخون دوره ووظيفته!

لماذا يستكثرون علينا البطولة الرمزية؟!

أؤمن بحق الآخرين في الاختلاف حتى في المسلمات... فالعقل الحر قادر على منح الآخرين هذه المساحة من أجل أن يثري قناعاته، وأن يرسخ إيمانه بمبادئه، من دون أي خوف من رياح الرأي المختلف... لكن لا أدري لماذا كنت أشعر بالقهر والحزن، أمام الأصوات الإعلامية العربية، التي لم تختلف مع ما فعله منتظر الزيدي وحسب، بل حاولت تسفيه فعلته، باعتبارها في أحسن النوايا- فعلا عبثياً لا معنى له.. ولا طائل منه!
والواقع بالنسبة لكثير من المشاهدين العرب البسطاء، صارت قضية الزيدي في كثير من البرامج الحوارية والندوات والتقارير التلفزيونية، حداً فاصلا بين فريقين: فريق استكثر علينا أن نبتهج لهذا الفعل البطولي الرمزي... وآخر رأى ما فعله منتظر الزيدي بعقله وقلبه ومشاعره وانتمائه ووجعه... رآه بصورة الاحتلال والمجازر... وبدم الشهداء، وبحزن العراق، وبجوع غزة... ووحشية غوانتانامو وعار أبو غريب!
وقد أسعدني أيضاً، أن أراه بعيون إعلاميين كبار، كنت فيما مضى أحترم تألقهم المهني، فإذا بي أرى تألقهم الوطني أيضاً، يضفي عليهم مزيداً من المهابة والنقاء...
أسعدني جداً أن أرى الكبير جورج قرداحي في برنامج (ألو بيروت) على قناة (الجديد) يقول: إنه يفتخر بكون منتظر الزيدي زميلا له في مهنة الإعلام... ويفتخر بما فعله، ويعتقد أنه أثلج ليس صدور العرب فقط، بل الكثير من الأمريكان، لأن ما فعله بوش بأمريكا ليس قليلاً... مذكراً بالأزمة الاقتصادية التي تمر بها أمريكا.... فهل كان ما يقوله قرداحي كلاماً عاطفياً لا عقلانيا؟!
وشعرت بالزهو حين سمعت الإعلامي الكبير حمدي قنديل، يقول في برنامج (أنت والحدث) على قناة (إل. بي. سي) اللبنانية، وبالحرف: (حذاء منتظر الزيدي أهم من كل ما قلته خلال السنوات الخمس الأخيرة منذ احتلال العراق!) فهل كان قنديل قاصداً تسفيه عمله الإعلامي الدؤوب والناجح من منطق عاطفي وغوغائي ولا عقلاني؟!
ثم هل كان قنديل مزاوداً وهو يختم الحلقة الحوارية، التي استضافت معالجا نفسياً أمريكياً، ليحذر من محاولة تصوير الزيدي على أنه إنسان غير طبيعي، وهو ما أرادت أن تروجه بعض المحطات العربية وللأسف، وليقول بالفم الملآن: (الزيدي أعقل منا جميعاً).
وقد طرحت على نفسي في النهاية سؤالا مريراً وأنا أتابع الكاتب حازم صاغية، وهو يرى في تخلي الصحافي عن مهنيته (انحطاطا) على حد تعبيره: هل وضعنا حذاء الزيدي أمام حقيقة أنفسنا؟! هل أسقط ورق التوت عن (عقول) عربية، لا تريد أن تمنحنا فرصة للاحتجاج الرمزي في اللحظات الأخيرة من وداع بوش متبجحا بإنجازاته... بعد سنوات، ذقنا فيها ـ عبر أهلنا في العراق وفلسطين ـ مرارة الإهانة والاحتلال والتدمير والتهجير والحصار والتجويع؟!

هل أوقف تلفزيون دبي 'قلم رصاص'؟!

رفض الإعلامي حمدي قنديل، التعليق على توقف برنامجه الهام (قلم رصاص) الذي كان يقدمه في قناة (دبي) كما تحاشى تقديم رد صريح، على سؤال مذيعة (أنت والحدث) فيما إذا كان هذا التوقف اختيارياً، أم تم تحت ضغوط... وقال في رد ينذر بوجود أزمة: (جئت إلى هنا لأتحدث عن قضية الزيدي... وليس عن برنامجي)
هذا الرد يطرح سؤالا فيما إذا كان (قلم رصاص) قد توقف بالفعل... وفيما إذا كان التوجه السياسي الحار والجريء لقنديل، كان سبباً في هذا الإيقاف... وهل هو مؤقت أم نهائي؟!
في كل الأحوال... ننتظر الأيام أو الأسابيع المقبلة، لنرى ما هو مصير (قلم رصاص) وإن غدا لناظره قريب!

ناقد فني من سورية
(108)    هل أعجبتك المقالة (122)

لبنى

2008-12-25

أنت أيضا-محمد منصور- كنت تعجبني في كل كتاباتك السابقة -والتي تتميز بالهدوء والصدق والموضوعية- وأثلج صدري اليوم أن أراك في صف المنتظر بعقلانية جميلة فتصرفه- وإن بدا غير حضاري، وإن بالغ البسطاء في الاحتفاء به- لايستحق هذا الهجوم العنيف من أدعياء العقلانية والتنوير العربي والذين ليسوا أقل تطرفاوتشنجا في التعبير عن مواقفهم وآرائهم من المتطرفين الدينين. شكرا من القلب..


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي