لم يختلف قصف الروس على محافظة إدلب، لا من حيث شدته ولا كثافته، خلال الساعات التي تلت تسليم جثمان الطيار القتيل "رومان نيكولاي فيتش فيليبوف" عما كان عليه قبل تسليم جثمانه، لا بل إن القصف ازداد وحشية بعد تسليم الجثمان، وكأن موسكو تمد في النهاية لسانها لكل من ساهم في عملية تسليمها جثة طيارها.
ففي هذا اليوم الأربعاء، عاشت محافظة إدلب، وما تزال حتى ساعة كتابة هذه الأسطر على وقع غارات وقصف جنوني، اتبع سياسة الأرض المحروقة، وأعاد التذكير بأن الهدف النهائي لروسيا في سوريا هو إبادة كل من عارض بشار الأسد، أو "تركيعه" ليقبل العودة إلى حظيرة النظام صاغرا نادما.
وفي هذه الأجواء باتت إدلب، بعد عملية تسليم جثة الطيار، منطقة منكوبة بكل معنى الكلمة، ما من شأنه أن يرفع منسوب الحنق الشعبي على الجهة -وتحديدا على الشخصيات- التي تورطت في تسليم جثة الطيار الروسي، معرضة المدنيين للدغ من جحر موسكو للمرة الألف.
ومن شأن الوضع الذي تعيشه إدلب هذه الأيام بالذات، أن يفتح عيون الناس على قضية الدعم والداعمين، ومدى تبعية وارتهان جهة أو قيادي ما للجهة التي تمده بالمال أو السلاح، إلى درجة تجعله يشتري رضا هذا الداعم ولو كان ذلك على حساب سخط البيئة التي احتضنته ووثقت به، وسلمته زمام المنطقة أو القطاع، وفوضته أخلاقيا وطوعيا بالبت في الأمور التي تحقق لمجتمع الثورة ما يتاح من منافع وتجنبه قدر الإمكان مغبة الكوارث.
قد يبدو هذا الكلام غريبا على منطق التحليل الإخباري المعهود، لكن إدلب والغوطة بالذات تعيشان هذه الفترة أياما عدّاد ثوانيها من دم ودمار وأشلاء، ولا ينقضهما -كما لاينقص أي منطقة منكوبة- مزيد من القرارات المرتجلة ولا التصرفات الطائشة، التي لا تقيم أي وزن للناس، بقدر ما تقيم وزناً لرأي هذا الفصيل أو ذاك، بل وحتى كلمة هذا القيادي أو ذلك.
لقد أثبتت حادثة تسليم الطيار القتيل (وهي في حقيقتها تقديم لجثته على طبق من ذهب)، أثبتت أن قضايا بهذا الحجم لا يمكن بل لا ينبغي تركها لفصيل أو فصيلين للبت فيها، بل لا بد من أن تجتمع كل الفصائل الموجودة في المنطقة للتشاور فيها، وتصدر قرارا موحدا بشأنها، إن لم يكن على قاعدة الإجماع، فعلى قاعدة الأغلبية أضعف الإيمان.
وإنه لمن المخزي لدرجة لا يمكن وصفها أن تقارن مسألة أسر أو قتل طيار روسي، باغتنام رشاش أو صندوق ذخيرة، وأن يعمد الفصيل الفلاني ليقول نحن من أسقطنا الطائرة فنحن أحق بطيارها، فيرد عليه الفصيل الآخر، نحن من وصلنا إليه قبلكم وقتلنا، فيأتي الجواب بأن الطيار انتحر وقتل نفسه بتفجير قنبلة كانت بحوزته.. ثم وبعد كل هذا الجدال الصبياني، والاحتدام الكبير والغضبة الفضائلية البغيضة، نجد أن جثة الطيار تسلم لروسيا بودية تامة، دون غضبة ولا حتى حمرة خد!
لقد خذلت الفصائل، وخذل الفصائليون، الشعب السوري الثائر تارة أخرى، بل طعنوه هذه المرة طعنة عميقة، وبادروا بعقد صفقة خاسرة بكل المقاييس السياسية والأخلاقية وحتى الشرعية، ومن المستبعد أن تكون هذه الصفقة "خاتمة" الكوارث التي تحل بالثورة ومجتمعها على يد الفصائل، ما لم يتم توجيه رسالة تحذير شعبية لكل هؤلاء بأن يكفوا يدهم عن القضايا الكبرى، ولا يستبدوا برأيهم الفردي فيها، ثم يحملوا عاقبة هذا الرأي الفردي لجموع غفيرة من الضعفاء.. سلب "الأخ" و"الصديق" منهم قرارهم، ثم جاء "العدو" ليسلبهم أرواحهم.
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية