بات من المؤكد أن مستقبل القضية الفلسطينية يعتمد إلى حد كبير على نجاح حركة حماس في إدارة الصراع مع الاحتلال الصهيوني وحلفائه الغربيين على ثلاث جبهات ساخنة: التسوية السياسية، والصراع الداخلي، والمواجهة العسكرية، وفقاً لإستراتيجية بعيدة الأمد تقوم على رؤية شاملة ودقيقة للأهداف الصهيونية.
التهدئة والمصالحة بين حركتي حماس وفتح ضروريتان لإنجاح التسوية التي تتضمنها عملية أنابوليس، والتي حدد الاحتلال وسائل تحقيقها ونتائجها النهائية، برعاية ما يسمى "المجتمع الدولي". وتعني المصالحة، من وجهة النظر الصهيونية والغربية، حسم الصراع الداخلي لصالح شركاء الاحتلال في التسوية. وتشكل المفاوضات العبثية أهم وسائل تحقيق النتائج النهائية لهذه التسوية، وهي إقامة دولة يهودية إلى جانب دولة فلسطينية لا تزيد عن "حكم ذاتي" أو "حرية اقتصادية" في كيان ممزق خاضع أمنياً واقتصادياً وسياسياً للدولة اليهودية.
ويواكب هذه المفاوضات إقامة وقائع جغرافية وديموغرافية على الأرض تؤدي إلى تحقيق حلم إقامة دولة يهودية "ديمقراطية." والديمقراطية هنا لا تعني ضمان حقوق الفلسطينيين في الدولة اليهودية، وإنما تعني إجبار الفلسطينيين على الهجرة للعيش في الكيان الفلسطيني الممزق، لأن بقاءهم في الدولة اليهودية يتنافى مع يهوديتها ويعرض مستقبلها للخطر. ولذلك فالديمقراطية هنا تعني العنصرية.
وأعد الاحتلال الصهيوني جيداً لتحقيق الأمثلية من نتائج التسوية وتوظيفها ليتمكن من إقامة دولة يهودية عنصرية. فقد زرع الاحتلال الصهيوني 450 ألف مستوطن في الضفة المحتلة، منهم 180 ألف مستوطن في القدس الشرقية، رغم أن أي تسوية سياسية مستقبلية ستؤدي إلى إخلاء نسبة كبيرة من هؤلاء المستوطنين. إذن الهدف من هذا الاستيطان هو الإعداد لمقايضة سكانية بين المستوطنين والفلسطينيين المقيمين في الجزء المحتل من فلسطين سنة 1948.
ويشمل الإعداد الصهيوني أيضاً تهويد القدس المحتلة والضم الزاحف للأراضي الفلسطينية إلى كيان الاحتلال الصهيوني، لضمان عزل الضفة الغربية عن الضفة الشرقية وفصلها عن غزة، وفصل القرى والمدن الفلسطينية عن بعضها البعض، وعزلها بالحواجز العسكرية والمستوطنات والطرق التي يسيطر عليها الاحتلال...
ومن وسائل تحقيق الحلم الصهيوني، مواصلة العدوان والممارسات القمعية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، لإقناعه بأنه لا سبيل له لتجنب المعاناة إلا بتسليم ذمام أموره للمجتمع الدولي والخضوع لشروطه.
ولا يعني "حل الدولتين"، الذي يكثر الحديث عنه في سياق عملية أنابوليس، سوى إقامة دولة يهودية، بعد تنقيتها من الفلسطينيين، بنقلهم إلى الدولة الفلسطينية. وحل الدولتين هو البديل الصهيوني والغربي لحل "الدولة ثنائية القومية" المرفوض صهيونياً وغربياً. إذ يرى الصهاينة والغربيون أن هذا الحل سيؤدي إلى إخضاع ملايين الفلسطينيين للسيطرة الصهيونية المباشرة، ليجد الاحتلال نفسه أمام خيارين: إما التخلي عن ديمقراطية الدولة اليهودية، وإما التخلي عن يهودية الدولة العنصرية.
ويمكن النظر إلى الصراع الداخلي، على أنه وسيلة للضغط على الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة والممانعة من أجل فرض التسوية السياسية عليها، وتسريع إقامة الدولة اليهودية. وبعبارة أخرى، فإن الصراع الداخلي، الذي يدعم الصهاينة والغربيون طرفه المشارك لهم في عملية التسوية، ما هو إلا وسيلة من وسائل تحقيق حلم الدولة اليهودية العنصرية...
ويدعم الصهاينة والغربيون المصالحة بين فريق التسوية وحركة حماس، ولكن وفقاً لمفهومهم وشروطهم الخاصة، فقد وضعوا للمصالحة أهدافاً لا تحيد عنها وسقفاً لا تتجاوزه، وهي تقتصر على إعادة النظر في حجم المشاركة السياسية لحركة حماس في النظام السياسي الفلسطيني، لضمان عدم إفشال التسوية أو الإخلال بنتائجها، ولحصر المشاركة السياسية لحركة حماس فيما يضفي شرعية فلسطينية على عملية التسوية تفضي إلى شرعية عربية وإسلامية.
وهنا يبرز دور التهدئة في توظيف الممارسات العدوانية الصهيونية، التي تشمل الحصار والحرب على المقاومة في كل من الضفة وغزة، وتهيئة الوعي الجمعي الفلسطيني لاستيعاب متطلبات التسوية السياسية، أيديولوجياً وسياسياً...
فتهدف التهدئة إلى توفير أجواء مواتية للتسوية، والتطبيع، ودمج كيان الاحتلال في منطقتنا، وعلاج الصداع الذي تسببه صواريخ القسام وأشباهها في رؤوس قادة الاحتلال، وحقن الاستنزاف المعنوي والبشري لجيش الاحتلال، وتفعيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة، إضافة إلى خنق المقاومة، وتمكين فريق التسوية من تنفيذ مهامه الأمنية التي نصت عليها خريطة الطريق، وإخضاع الشعب الفلسطيني لواقع ظالم أوجده الاحتلال...
وفي حالة فشل الإصلاح والتهدئة وما سيؤدي إليه من تعثر عملية التسوية السياسية، سيشعل الاحتلال جبهة المواجهة العسكرية، للضغط على حركة حماس وتقويض المقاومة. ويعتمد حجم هذه المواجهة على قدرة الاحتلال على تحقيق أهداف المواجهة، وتفاعل الرأي العام الغربي مع نتائجها، وسرعة التحرك الشعبي العربي والإسلامي، وحجمه، ضد العدوان الصهيوني والتواطؤ الرسمي العربي، وحجم الخسائر البشرية في صفوف المستوطنين والجنود الصهاينة، إضافة إلى قدرة أجهزة عباس وفياض على السيطرة على الأوضاع في الضفة وغزة بعد انتهاء المواجهة العسكرية.
والمواجهة العسكرية لن تخدم الأهداف الصهيونية على الأمد البعيد. أما على الأمد القريب، فستؤدي المواجهة إلى تقويض عملية التسوية وإحداث تغييرات جوهرية في نظام أوسلو لصالح حركة حماس والقضية الفلسطينية. وسيؤدي نجاح حركة حماس في إدارة التهدئة والمصالحة إلى كسب الصراع على جبهة المواجهة العسكرية وتخفيف نتائجها الضارة على الشعب الفلسطيني، عبر كسب الوقت ومواصلة الإعداد، لإنضاج التفاعل الشعبي العربي والإسلامي مع القضية الفلسطينية، ولتعرية فريق التسوية والأنظمة العربية الداعمة له والاحتلال الصهيوني والمجتمع الدولي الراعي للتسوية.
21/12/2008
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية