علـّق الرئيس بوش، فوراً، وبارتياح متصنع، شابه ذهول وارتباك باد، ومفرط، على أن ما فعله الزيدي هو عمل من أعمال الحرية الفردية التي جلبها الغازي الأمريكي إلى العراق. فالرئيس، وحكومة المالكي بأسرها، لم يكن باستطاعتهما فعل أي شيء حيال هذا الحدث الرمزي الكبير والفاقع في دلالاته التعبيرية كرد فعل على حقبة اتسمت بالموت والدمار والدم والنار. وسنضطر هنا، لمجاراة الرئيس قليلاً في ادعائه بأن ما حدث هو نتيجة لوجود حرية تعبير في العراق وهي ثمرة من ثمرات الاحتلال. ولذا، فالأسئلة، والإشكاليات المنطقية والمبهمة في ذات الآن، والتي تفرض نفسها، وتجعل من ابتلاع الطعم "التحرري"، أمراً صعباً ناهيكم عن استحالة هضمه على الإطلاق. ولو كان كلام "دبل شوز" صحيحاً عن الحرية والتعبير الفردي الحر، لكان من الأولى أن يطلق سراح الزيدي فوراً، وألا يتم توقيفه اعتباطياً وتعسفياً، إطلاقاً، على فعل من أفعال "الحرية" التي جلبها "دبل شوز" واحتلاله للعراق. ألا يبطل اعتقال الزيدي، وضربه، وتعنيفه أمام الشاشات بذاك الأسلوب غير الحضاري والهمجي، ومن ثم تعذيبه، و"تدمير" حذائه، انتقامياً، وثأرياً، أي زعم وادعاء بوجود تغيير في النهج والممارسة التعسفية التي أتت مع بساطير الاحتلال؟ وكم كان المشهد سيبدو معبراً ومؤثراً، ومقنعاً، فعلاً، لكل أولئك "المكذّبين المغرضين والمتحاملين"، لو تابع الزيدي حضور المؤتمر حتى نهايته شرط إعادة حذائه فوراً، إذ لا يعقل أن يحضر صحفي مؤتمراً رئاسياً من دون حذاء؟
وفي تصريح لاحق، يقول "بوش تعليقاً وتعقيباً على الحادثة، بأنها كانت واحدة من أتفه اللحظات في سنوات حكمه. وكنا سنصدق ذلك أيضاً لو أنه لم يكن قد قال عن الحادثة سابقاً بأنها فعل تحرري وديمقراطي يعتز به. فأي الكلام سنصدق، ها هنا؟ ولو جارينا سيادته وقلنا له فعلاً بأن هذه الحادثة تافهة جداً وأتفه ما يكون، فإن ذلك سيعني وبالاستدلالات المنطقية المعهودة ذاتها، بأن التعبير عن النفس، ومهما كانت طريقته هو عمل تافه، وهذا ما لا يريد، بالتأكيد، أن يقوله الرئيس، أو أي من أعضاء حكومة المالكي. ألا تصبح التفاهة هنا معادلاً موضوعياً لحرية التعبير عن الرأي الذي أتحفنا به سيادته سابقاً؟ وكيف يتم تعذيب الناس وحجز حريتهم لمجرد تعبير عن الرأي؟ وكيف يكون ذات الحدث، مرة، ثمرة من ثمار حرية التعبير عن طبيعة العراق الحر الجديد، ثم يصبح لاحقاً، وبقدرة قادر، مرة أخرى، لحظة تافهة حسب تعبير الرئيس بوش نفسه وليس غيره؟ وكيف استوى هذا معكم يا سيادة الرئيس؟ ( هل يتذكر أحد ما أغنية أم كلثوم، حيرت قلبي معاك، لتصبح ها هنا حيرت عقلي معاك؟)
وبما أن حقبة الرئيس "دبل شوز" تميزت، كلها، أو طغى عليها احتلال العراق ومفاعيله "التحريرية" الأخرى كـ: ( الدستور، الانتخابات، الاتفاقية الأمنية، الفيدرالية، سجن أبي غريب...إلخ)، من ألفها إلى يائها، فإنه من قبيل ذات التعميم المنطقي جداً القول، أن كل حقبة الرئيس اتسمت باللحظات التافهة وكل نتائج الاحتلال هذه، وبكثير من التحفظ والاعتذار الشديد لاستخدام لفظة "تافهة"، هاهنا إذا اعتبرنا أيضاً أن التعبير عن الرأي بحرية، موجود من أصله، وهو من منجزات الاحتلال. هل تقصد سيادته أن يقول هذا الكلام، أم لم يعد يغرف ما يقول، وخانته التعابير، والمفاهيم، وضاع في أتون التخبط اللفظي المرتبك وسط هذه المعمعة الفضائحية التي هزت كيانه من الأساس ، ومركزه الرئاسي، الذي صار مجالاً للتندر والسخرية في كل مكان من العالم. ويكفي لكل المشككين، والمخفـّفين من وقع الحدث، أن يقوموا بعملية بحث "غوغلية" وباللغة الإنكليزية فقط، وليس العربية أو غيرها من اللغات الحية، ويكتبوا كلمة Al Zaidi، ليتعرفوا، عن كثب، وليتأكدوا بأنفسهم على وقع ذاك الحدث "التافه"، وأصدائه عالمياً، وليس محلياً.
والأنكى من هذا وذاك، ولكي تكتمل مسرحية الحرية، فإن الزيدي سيحاكم بناء على قانون سنه "المرحوم" صدام نفسه، وستتم إدانته والحكم عليه بسبب فعل من أفعال الديمقراطية وحرية التعبير، بموجب إرث ديكتاتوري ما زال يـُعمل به رغم ما تم من تحرير وإطلاق لـ"حرية التعبير والكلام"؟، فعن أي تحرير تتحدث يا سيادة الرئيس؟ (تقول المادة 227 من قانون العقوبات العراقي: "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين أو بغرامة لا تزيد على مائتي دينار كل من أهان بإحدى طرق العلانية دولة أجنبية أو منظمة دولية لها مقر بالعراق أو أهان رئيسها أو ممثلها لدى العراق أو أهان علمها أو شعارها الوطني متى كانا مستعملين على وجه لا يخالف قوانين العراق. ولا تقام الدعوى عن هذه الجريمة إلا بناء على إذن تحريري من وزير العدل". أوقف العمل بهذه المادة في إقليم كوردستان بموجب قانون رقم ( 21 ) لسنة )2003. "العربية.نت"
ألا يعتبر هنا، وما زلنا في حيز الرمزيات، والاسقاطات التطبيقية المنطقية إياها، الحكم على الزيدي، إن تم، هو حكم على الديمقراطية البوشية المزعومة، ومفاعيلها، برمتها في العراق كونها أتت مع الاحتلال؟ ويجعل كل رطانة بوش المتحذلقة عن الحرية، أحاديثاً فارغة وعابرة لا معنى لها، من الأساس. فإذا كان التعبير عن الرأي مصاناً، ومقدساً، وحقاً يمارسه الجميع، فلماذا تم توقيف الزيدي، وتعذيبه، وكسر أضلاعه وإصابة عينه، ( كما أوردت الأوبزرفر اليوم)، وتحضيره لمحاكمة ستكون محاكمة لحقبة بوش، بكاملها، أولاً، وأخيراً، مع التنويه، بأن وصف حقبة بوش بالتافهة هو أمر من قبيل الأدب الجم، وفيه الكثير من الأدب واللباقة والحشمة والاحترام؟
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية