يبدو أن للحذاء نصيبا من العولمة. فبعد خفي حُنين اللذين كانا مضربا للمثل على مدى أجيال منذ آلاف السنوات، وبعد حذاء أبي القاسم الطنبوري الذي ترددت حكاياته العجيبة في خلق المشكلات وخيبات الأمل، وحذاء خروتشوف الذي هز طاولة مجلس الأمن في الأمم المتحدة خلال أزمة الصواريخ الكورية، ثم حذاء القائد الفرنسي الذي عجز عن اقتحام قلعة عكا فرمى فردة حذائه من فوق السور ليقال إنه وطئها بحذائه، بعد هذا كله تعيد العولمة للحذاء مكانته من جديد عبر حذاء منتظر الزيدي الذي استطاع فجأة خطف الأضواء وانتباه الكاميرات ليصبح بطل اللحظة بموازاة أقوى رئيس في العالم. وليصبح ـ على ما أظن ـ أغلى وأهم حذاء في العالم.
لم يكن مفاجئا إصرار منتظر الزيدي على خسارة فردتي حذائه، ودقة تسديده على وجه بوش وإصراره على الصراخ "بأعلى حذائه" بعدما بح صوته على ما يبدو أو لم يعد هناك من يسمعه احتجاجا على تدمير بلاده وقتل أكثر من مليون شخص وتهجير الملايين. الأمر المفاجئ كان قدرة بوش على تفادي التسديدتين بنجاح يجعل المشاهد يؤمن أنه " ملهم " من الله فعلا في الابتعاد عن مسار الحذاء بعدما كان العالم كله رفض كلامه عن الإلهام الإلهي يوم بدأ الحرب على العالم كله معلنا أن " من ليس معنا فهو ضدنا". ربما يكون منطقيا أن يتساءل المرء إن كان بوش قد تدرب على حماية وجهه من " الصرامي" قبل قدومه إلى منطقة ربما سيعرف أن أشد الإهانات فيها تكون بالضرب بالحذاء أو تشبيه الخصم ب" الصرماية" أو "النعال".
لو أن " قنبلة الحذاء" انفجرت قبل أيام فقط، لكان بإمكان بوش أن يحاجج ـ بعدما أعلن أن أجهزة استخباراته خدعته فيما يتعلق بالأسلحة النووية العراقية ـ بأن العراق مليء بأحذية " البهدلة الشاملة" التي تستحق تدمير بلد التاريخ والحضارة وإعادته إلى العصر الحجري. فلا يُعقل أن تترك أربعون مليون فردة حذاء بحوزة العراقيين، هذا إن لم يكن لدى البعض أكثر من فردتين. ولو أن عمر رئاسة بوش طويلا لكان فرض على الشرعية الدولية تحريم امتلاك شعوب بعض البلدان للأحذية واعتبارها "أحذية تدمير شامل".
مع ذلك استطاع منتظر الزيدي أن يضع اسمه إلى جانب اسم سليمان الحلبي الذي قتل القائد الفرنسي كليبر صارخا "بأعلى مديته"، وسليمان خاطر الذي احتج "بأعلى بندقيته" على الاحتلال الإسرائيلي لبلدة طابا المصرية في سيناء. وكلاهما اعتبرضحية خلل عقلي من قبل من كان يوافق على ما رفضاه، وبطلين قوميين بنظر من أحب ما قاما به وكان لديه حب لوطنه. أما الزيدي الذي رأينا كيف انهال عليه من حوله إهانة وضربا وركلا أمام عدسات الكاميرا، فلا نعرف ماذا سيقال عنه. بالتأكيد سيوصف بالإرهاب وإلا ما تبرير معاملته بهذه الطريقة أمام عدسات الكاميرات وقد أصبح أعزل "مجردا من الأحذية" ولم يعد يشكل أي خطر. وبالتالي يمكن تنفيذ حكم القانون فيه بطريقة قانونية وحضارية تحترم آدميته وآدمية الذين شاهدوا ما جرى، وتتطابق مع الأعراف الغربية المتحضرة التي دُمر من أجلها بلدان عدة في العالم ابتداء من صربيا وحتى فلسطين و العراق وأفغانستان.
على كل حال كان بوش أكثر حظا من حُنين الذي لم يستطع الحصول إلا على فردة حذاء واحدة، بينما يستطيع بوش أخذ الفردتين إلا إذا كان كريما وتبرع بواحدة منهما لمن يراه جديرا بها. لكن من حق البعض أن يصر على الدفاع عن كرامة الحذاء فلا يسمح بأن يقتنيه رجل مثل بوش استخف بدماء الشعوب وكراماتها.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية