أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

من "الرجل الأصفر" إلى "أبو حجر".. مالذة العيش إلا للمجانين

في حلب اشتهر "الرجل الأصفر" الذي امتاز بلباسه الغريب الذي يكتسي باللون الأصفر

لا تكاد تخلو مدينة أو بلدة سورية من وجود فئة من المهمشين يُطلق عليهم المجانين أو الدراويش حتى كادوا أن يتحولوا إلى ظاهرة شعبية بامتياز، وهم وإن فقدوا قدراتهم العقلية وإحساسهم بالواقع، إلا أنهم لم يفقدوا نزعة المفارقة والطرافة في سلوكهم وهندامهم وحياتهم اليومية والتمتع بالحياة بعيداً عن الهموم ولسان حالهم يقول "مالذة العيش إلا للمجانين".

من مجانين حمص الذي اشتهروا في الستينات والسبعينات من القرن الماضي "الأستاذ علم" الذي كان شخصية مميزة بكل معنى الكلمة، بدءاً من مظهره الذي يتغير من يوم الى آخر، فيوماً يطلق لحية سوداء غزيرة بلا تشذيب ولا تهذيب، ومرة يتعمم بعمامة بيضاء تظهر وقاره وكأنه شيخ أمضى العمر كله في المساجد وأماكن العبادة والتقوى، ومرات كان يبدو متفرنجاً الى أبعد الحدود، فيلبس بنطالاً أزرق ضيقاً وفوقه قميصاً بألوان قوس قزح ويرسل القميص فوق البنطال بلا أدنى مبالاة، ومرات كان يبدو في صورة عادية جداً، وأخرى في صورة مضحكة للغاية فيحلق ذقنه وشاربيه ويدع شعره ينمو فوق رأسه كالتاج ويظل يعلو حتى يصير كالقبة، وكان منظر شعره أكثر ما يميزه ويلفت الانتباه إليه لمن لا يعرفه، ويقال إن "علم" عشق صبية من حي "باب تدمر" المجاور لحيّه، وكان يمضي ساعات طويلة تحت نافذتها وهو يدندن لها الأغاني كواحد من عشاق "الترابادور".

وكان "الأستاذ علم"، كما يصفه الأديب الراحل "عدنان الداعوق"، بحراً من المتناقضات استطاع ان يجمع بين الفلسفة والشعر والموسيقا والعمامة والقفطان والبنطال الأزرق الضيق والقمصان الملونة الزاهية في شخصية عاشق من طراز فريد".

وفي حلب اشتهر "الرجل الأصفر" أبو زكور الذي امتاز بلباسه الغريب الذي يكتسي باللون الأصفر الفاقع من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، وكان دائم التواجد في ساحة "باب الفرج" وسط المدينة.

وروى الكاتب الساخر "نجم الدين السمان" لـ"زمان الوصل" أن أبا زكور كان ينزل إلى أسواق وساحات حلب عصر كل يوم بكل أناقته المتمثلة بطقم أصفر كامل وقميص ليموني وجراب أصفر وحذاء صبغه بالأصفر وطاقية وسبحة صفراوين، وذات مرة -كما يقول "سمان"- ظهر بطقم أخضر فاقع فعيّره الناس بأنه يقلد القذافي فعاد إلى ارتدائه ثانية.

وأردف الأديب "السمان" أن الاسم الحقيقي للرجل الأصفر غير معروف ويقال إنه من خارج حلب، وكان لا يبوح باسمه حتى للأمن، وذات مرة –كما يؤكد سمان- تعرض للضرب والاعتقال من قبل دورية أمن، وبعد اعتقاله لساعات تم الإفراج عنه، كما تعرض للإساءة الضرب بداية الثورة بتهمة أنه عميل للنظام.

وروى محدثنا أنه دعا الرجل الأصفر ذات يوم إلى مقهى القصر، حيث يجلس مع شلته وحاوروه –كما يقول– عن الفرق بينه وبين القذافي وكتابه الأخضر وكان حواراً طريفاً حتى أنه لم يعترف بالقذافي أصلاً معتبراً أن القذافي الأصلي قُتل منذ زمن، وأن الذي ظهر في فيديو الاغتيال هو القذافي المزيف.

ولفت "السمان" إلى أن الجنون قد يكتسب صفة محمودة بعض الأحيان وبخاصة إبداعياً حينما يكون المبدع خارج الأنماط وسياسياً حين يكون المرء خارج القطيع، فيسميه المجتمع مجنوناً لأنه يغامر من أجل الحرية براحة ويسد الباب بوجه كل ريح.

وأردف أن "الجنون الطبيعي يختلف عن الجنون إلى الحرية ويفارق المتكلس والسائد"، مشيراً إلى أن "الجنون الوحيد الذي لا شفاء منه أن يتخلّى المرء عن مبادئه وأخلاقياته أو أن يبيعها بأبخس الأثمان لينجو بنفسه من الجحيم".

في مدينة السلمية التي امتازت بالرفض والعقل والإبداع وأنجبت أهم شعراء سوريا ومنهم "محمد الماغوط" و"علي الجندي" و"أحمد الجند" و"اسماعيل عامود" برز أيضا ً العديد من المشردين والمجانين لعل على رأسهم "أبو حجر السلموني" بثيابه الرثة وغرابة أطواره، ويصف الصحفي والكاتب "مصطفى علوش" أبو حجر الذي كان يخبئ بين قماش ثيابه متعدد الألوان طعامه من الفواكه والخضروات وكأنه نملية، والطريف، مضيفاً أن الكثير من أهل المدينة تحدثوا عن (ارتباط) هذا المشرد بأجهزة الأمن، وهذا إن دل على شيء، إنما يدلّ على ثقافة الخوف المترسبة في نفوس الناس حيث كل شيء مراقباً، فتحليل الناس هذا ينتمي "لثقافة الرعب المتوارث".

وثمة قصة يرويها البعض عن سرّ جنون (أبو حجر) تحمل -كما يقول "علوش"- بعداً أخلاقياً، وتبدو قريبة من بعض حبكات الأفلام الهندية، واتضح لاحقاً عدم صدقيتها. 

إذ يروي البعض أن امرأة غنية حاولت تخليصه من حالة التشرد، فأخذته إلى بيتها وقامت بغسيله وألبسته لباساً جديداً، وعاش عندها عدة أشهر، لكن حنينه الكبير لحالته الأولى جعله يترك هذا العز ويعود لتشرده.

ومع بداية الثورة ظهر حساب على "فيسبوك" يحمل اسم "أبو حجر" لمعتقل سابق لم تُعرف هويته اعتاد على نشر منشورات لاذعة وجريئة تعبيراً عن الضمير الجمعي ليتحول إلى أحد نتاجات الثورة السورية، حسب تعبير المعارض الراحل "صبر الدرويش". 

وبدوره رأى الكاتب الساخر "أحمد عمر" أن الجنون، هو غياب العقل وراء ستار، يقال جنّ الليل، وفي الفجر تبدأ الشمس بالشروق، ومع الضوء يختفي جنون الليل. لكن الجنون أدوم من ستار الخمرة، فالخمرة تغيّب العقل لساعات.

وروى عمر أن زميلاً له وهو من عائلة كريمة حكمت حمص أصيب بمس من الجنون منذ سنوات وكان بارعاً في مهنته، وفي إتقان اللغة الإنكليزية، لكنه كان يهذي كثيراً من الخوف ويرتبك ويتلبك، ويثرثر ويسأل عن أشياء في غير محلها أو موعدها.

وأردف "عمر" أن الناس عندنا وحوش وذئاب، تفاخر بعقولها عند ظهور المجانين، فتبدأ بأخذ الصور التذكارية من غير كاميرا أو "سيلفي"، فتقوم بالتحرش به، وتسأله أسئلة كي تضحك منه.

وفي القطاع العام الناس لم يكن للموظفين من عمل سوى الحسد والثرثرة، يقال في الأمثال اليد البطالة نجسة والبطالة المقنعة أنجس.
واستطرد محدثنا أن حالة زميله كانت تزداد سوءاً، وإذا كان حوله بعض الناس التقاة الذين يقدرون حالته فيراعونها، فإن آخرين كانوا يلهون بها، ويقصدونه من أجل التسلية.

وبعض "المستذنبين"، كانوا يضربونه، ويتعمدون تكليفه في المظاهرات بحمل صورة الرئيس أو اللافتات، فيحولونه إلى مهّرج، ولفت "عمر" إلى أن سلوك زميله "المجنون" في البيت كان عادياً، لكن هذا الحال ينقلب في الشارع وكان جنونه يزداد يوماً وراء يوم حتى بدا إعدامه أرحم لمن حوله وله، إلى أن احترقت سوريا كلها وبقي "العاقل الحكيم" في القصر الجمهوري.

وحول تهميش فئة الدراويش أو المجانين في كنف الثورة أوضح الكاتب والصحفي "علي سفر" أن المجتمع يصم هذه الفئة غالباً بالجنون، وحين يصبح الإنسان رخيصاً لهذه الدرجة لا أحد سيهتم بالموصومين.

وفي سياق مقاربته لـ"تسييس الجنون" لفت "سفر" إلى أن المجانين "هم فئة صرّحت بالرفض فاستكلب القمع عليها".

وأردف متسائلاً: "ألم نكن مجانين حين نزلنا إلى الشارع في ثورة؟ ومع ذلك فمن الجنون أيضاً أن يستمر الوضع على ما كان عليه ولهذا –حسب قوله- "مارسنا جنوننا فهل نسميه الجنون المضاد الجنون ضد السلطة وكحالة طبيعية هو ضد السلطة".

وتابع سفر أن "المجانين أو البهاليل عبر التاريخ كانوا يسخرون من السلطة ويتحدونها لكن السوريين مارسوا جنونهم وكأنهم يعتنقون المستحيل".

فارس الرفاعي - زمان الوصل
(199)    هل أعجبتك المقالة (149)

رشاعبدالباسط

2017-12-22

رائع تسلم أيدك.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي