المشهد الذي تابعناه وتابعه العالم حينما كان حذاء الصحفي العراقي "منتظر الزيدي" يتجه مباشرة إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش ، المرة تلو المرة ، المشهد كان فوق كل وصف ، لأنه استطاع أن يختزل ويكثف حكم الناس والتاريخ على هذا الرئيس العار ، وعلى مرحلته كلها ، وعلى حلفائه والتابعين له ، وعلى كل المرحلة التي قادها وكون عناوينها، ومعاركها، وشعاراتها.
لم يكن الحدث مجرد حذاء صحفي في وجه طاغية ، لكنه كان حكما عادلا يختتم به الطاغية حياته السياسية ، ولعل في هذا الحذاء بداية مشوار لمحاكمة كل رموز هذه الحقبة الكالحة من حياة العراق وحياة أمتنا وحياة العالم كله.
المشهد وقع في المنطقة الخضراء المحصنة التي جعلها المحتل الأمريكي منطقة أمان لقياداته، وعملائه ، وقع بينما كان يحتفي باتفاقية الذل الذي وقعها مع عملائه في بغداد ، ولسان حاله يريد أن يقول : لقد أمنت للولايات المتحدة هدف احتلال العراق ، ووثقت هذا الواقع باتفاقية تشرع الاحتلال وتربط العراق ولأمد غير منظور بالسياسات الأمريكية، وتقيم طبقة سياسية كاملة من العملاء الذين يدركون تمام الإدراك أن وجودهم واستمرارهم على راس السلطة في بغداد مرهون بارتباطهم بواشنطن، وبتمكن الولايات المتحدة من العراق أرضا وشعبا وثروات.
بوش كان يبتسم سعيدا بما حقق، وقد فرغ لتوه من مصافحة المدعو برئيس وزراء العراق، وكان يعتقد أنه بهذه الخاتمة لحكمة يستطيع أن يغطي كل الجرائم التي ارتكبها بحق الأمريكيين، حين كذب عليهم وورطهم في غزو العراق، فسال من الدم الأمريكي بغزارة لم يكن لها مثيل إلا زمن حرب فيتنام، كذلك يستطيع أن يقول لكل حلفائه الذين غادروه قبل أن يكمل مشواره في تدمير الحياة في العراق والعالم كله، أنه استطاع أن يحقق شيئا وأنه لم يتأثر بمواقفهم وتراجعهم.
بوش كان يبتسم سعيدا بما حقق ، لكن حذاء الصحفي العراقي قطع عليه كل ما كان يريد ويأمل ويرغب، حذاء الصحفي العراقي كان المكافئ الموضوعي لهذا الطاغية، ولقد كان ذو دلالة بليغة لا حدود لبلاغتها أن استهدف الصحفي الطاغية ولم يستهدف المدعو برئيس وزراء العراق ، فهذا راس الأفعى ، وهو ما يجب أن يستهدف ، وحين يقضى على هذا الرأس وأفعاله وسياساته ، فإن الذنب يصبح خارج الفعل بل خارج الوجود أيضا.
الحذاء أقوى من الرصاصة، وأكثر فاعلية ودلالة، بل هو الرصاصة الحقيقية التي يستأهلها مثل هذا الطاغية الكذاب، فلو أن رصاصة استهدفته لوصف هذا الاستهداف بالعمل الإرهابي، وكان سيقال حينها إن بوش راح ضحية الإرهاب، وحينها سينال أوصافا وألقابا ترفع من شأنه، وقد تنسي الكثيرين سوء ما فعل، لكن حذاء الصحفي العراقي البطل منعت عنه هذا كله، حين وضعته في هذه الزاوية بالذات، حيث لا هم له إلا توقي أن يصيب الحذاء وجهه الكالح، وليسجل التاريخ الأمريكي بحروف من العار أن السياسات الخارجية لواحد من رؤسائه بلغت من السوء والعدوانية درجة من الانحطاط ولا أبعد، إذ ختم حياته السياسية بهذه الشاكلة، وسيكون على الأمريكيين أن ينظروا في أمر هكذا رئيس وضع بلاده في هذا الموضع الذليل حينما جعل خاتمته الضرب بالأحذية.
ولعل الأمريكيين جميعا سمعوا صوت "منتظر الزيدي" وهو يقول لرئيسهم: خذها هذه قبلة الوداع العراقية، وسيقع على عاتقهم منذ الآن أن يفهموا معنى هذه القبلة التي رسمها حذاء الزيدي، وسيكون على الإدارة الأمريكية الجديدة أن تتفهم أيضا هذا الموقف العراقي فتتصرف على ضوئه حتى لا تضع نفسها في ذات الموضع، فتغتر بالاتفاقية التي وقعها المحتل مع نفسه لتشريع وجود قواته في العراق، فالشعب الذي حول الحذاء إلى سلاح من أمضى الأسلحة، وحول قبلها الحجارة إلى سلاح ماض، وذهب في مقاومة المحتل إلى حد أن جعل من أجساد أبنائه قنابل موقوتة تستهدف المحتل وصنائعه، هذا الشعب في مقدوره أن يكنس مثل هذه الاتفاقيات وصناعها. وهو من يجب على العاقل أن يسمع قوله ويفهم فعله ويدرك إمكاناته.
عند الأمريكيين والعالم أيضا كان تاريخ الحادي عشر من سبتمبر 2001 تاريخا فارقا، حتى صار يقال ما قبل الحادي عشر من سبتمبر وما بعد الحادي عشر من سبتمبر باعتبار أن ما حدث في ذلك اليوم من ضرب برجي التجارة العالمية والبنتاغون وما لحق ذلك من احتلالات وحروب، وما غيرته تلك الأحداث من خريطة العالم السياسية جعلت ذلك اليوم يوما مشهودا، وبداية مرحلة جديدة في تاريخ العالم، يوما يؤرخ فيه.
واحسب أن الرابع عشر من ديسمبر يوم أن تلقى الرئيس الأمريكي جورج بوش حذاء الصحفي العراقي سيكون يوما فارقا آخر أمريكيا وعالميا، يوما يؤرخ فيه فيقال قبل الرابع عشر من ديسمبر وبعد الرابع عشر من ديسمبر أو قبل يوم تلقي بوش حذاء الصحفي العراقي، وبعد تلقي بوش هذا الحذاء، إذ الحدث جد خطير، ومضامينه ودلالاته لا يمكن حصرها، وما لم يدرك الأمريكيون ذلك ويدرك العالم كله ذلك فإن مسيرة جديدة من الدمار والخداع والكذب والضحايا تنتظر الجميع.
لقد اختزل حذاء الزيدي كل طبيعة وأزمة الليبرالية الجديدة، واليمين الأمريكي المتصهين، والعدوانية الأمريكية المدمرة، والسياسات المالية والاقتصادية التي قادت وما تزال العالم إلى الهاوية كاشفة عن أكبر سرقة وسوء أمانة وانحطاط خلقي في التاريخ، وقدم هذا الحدث الفرصة التاريخية للإدارة الأمريكية الجديدة وللمجتمع الأمريكي للبدء بمحاكمة هذه القيادة لما فعلته بالولايات المتحدة والعالم، فلا حصانة للطغاة، ولا حصانة لقتلة الشعوب، ولا حصانة للكذبة مزوري التاريخ.
كذلك اختزل حذاء الزيدي كل الهوان والتردي في النظام العربي الرسمي، وكشف سخف ووهن المتدثرين بضعفهم لتبرير عجزهم عن الوقوف في وجه العدوانية الأمريكية الصهيونية، وكشف رداءة وهوان هذه النظم التي لم تجد من طريقة للتعامل مع "النموذج البوشي" إلا الارتماء أكثر أمام مطالبه والخضوع أكثر لسياساته ، والتسابق أكثر في تنفيذ إيماءاته ورغباته حتى كسروا في سبيلهم هذا كل الحواجز والسدود، وخرقوا كل الستر والمحرمات، وما عاد لشيء عندهم أهمية غير رضا البيت الأبيض وسيده، حتى صار كأنه ربهم الأعلى. وامتد الأمر في لوثة الهوان هذه إلى ما هو أبعد من الحكام العرب ليجمع أحزابا وقوى ومفكرين أبهرتهم قوة الطاغية، وطال عليهم مشوار النضال، فغادروا مواقعهم السابقة ، وقفزوا إلى قطار الذل هذا فسابقوا بذلك أولئك الحكام فصاروا المنظرين والمفلسفين لهذه المرحلة.
وجاء حذاء الزيدي ليقول لهؤلاء جميعا " ألا شاهت الوجوه"، إن شعبا تربى على العزة لدينه ووطنه وأمته وتاريخه المجيد لا يرضى الذل، وإن العراق وشعبه يقف على تاريخ مجيد، وعز تليد، ودين عزيز،
وإذا كان الحذاء في هذا الموقع أمضى وأجدى من الرصاصة، فإنه كان أبلغ وأعمق من الكلمة، فلقد استطاع صاحب القلم الحر الأبي أن يستخدم السلاح الصحيح في المكان الصحيح، فحين لا يسعف القلم يسعف الحذاء، وحينما يُحرم القلم المجاهد من قول ما يجب قوله، ويُحرم المجاهد المقاتل من إمضاء الحكم الحق على القتلة والطغاة المتحصنين بالحراسات والإجراءات الأمنية المشددة يكون الحذاء هو السلاح الأمضى ويكون فعله هو الفعل الأجدى، ويكون من استخدم هذا السلاح في هذا الموضع هو الأكثر بصيرة وحكمة.
لك مني التحية أيها الصحفي الأبي، أيها المجاهد الذي أثبت أن ممارسة الجهاد أمر متاح وممكن للجميع وبوسائل مختلفة، وأثبت أن بعضها يكون في موضعه وزمانه هو الأجدى. لك مني التحية والإجلال بعد أن رفعت هاماتنا عالية بعملك العظيم، وقدمت نموذجا للصحفي هو النموذج الصحيح الحقيقي الذي حاول الإعلام المأجور أن يشوهه ويزوره، أو يعزله فيضعفه ويقزمه
أنت في قلب كل عراقي حر وفي قلب كل عربي حقيقي وفي قلب كل مسلم معتز بإسلامه ، وفي قلب كل إنسان على امتداد المعمورة يعرف حق الإنسانية ويعرف مدى الجرائم التي ارتكبتها هذه الإدارة الأمريكية بحق البشر كلهم، ويدرك مغزى ما فعلت.
لك في رقابنا دين لا يمكن وفاؤه إلا بالوفاء لك ولرسالتك، وإلا بالعمل المثابر لتحرير العراق، وإعادته طاهرا فاعلا في أمته ومحيطه. قليل أن ينتهض المحامون العرب والمحامون الأحرار في كل العالم للدفاع عنك.
قليل أن نمجدك بالكلمات ونشدو باسمك في كل وقت وكل حين.وتتداعى الصحافة الحرة للوقوف إلى جانبك.
قليل أن نقرأك بين من خطوا في تاريخ أمتهم وحاضرها حروفا خضراء مورقة تنبت بالعز والكرامة والمجد.
قليل أن نفعل لأجلك أي شيء، فلقد أدخلت إلى قلوبنا جميعا عزا وفرحة ونشوة ـ فقدناها منذ زمن بعيد ـ لو قدرت بمال الدنيا كله ما كفاها ـ وأعدت البهاء لطريق الجهاد والمقاومة ولتكامل أدوات الجهاد والمقاومة، حتى صار متاحا لكل واحد أن يخط في هذا الطريق حرفا أيا ما كان موقعه وإمكاناته، وظروفه.
أيها الرجل الأسير بين أيدي جلاديه، يا صاحب القلم المجاهد والحذاء المنافح، أنت الأقوى والأعز، رغم أنك مجرد من كل سلاح، أنت في المكان العلي رغم أنهم وضعوك في زنازينهم حيث تتجلى الديمقراطية الأمريكية بأصح صورها، من يأسرك الآن ! مرتزقة الشركات الأمنية الأمريكية ، أم جلاوزة التعذيب في أبو غريب من عسكريي قوات الاحتلال، أم زبانية المحتل من العملاء العراقيين !
من يأسرك الآن ! كل هؤلاء صغار أمام قامتك المتسامقة ، الذين عرفوك ، والذين تابعوا وجهك الجميل الوضاء المعبر وأنت تقذف بالحذاء في وجه الطاغية عرفوا تماما أنهم أمام رجل قوته في عقيدته، فيما يؤمن به، في قدرته على الإبداع في العطاء وعلى الإبداع في المقاومة، وإن رجلا قوته في قلبه وعقله، في عقيدته وإيمانه لا يمكن قهره ولا يمكن سجنه ولا يمكن إذلاله،
كل الذين أسرعوا إليك بعد أن أنجزت مهمتك ليأسروك فعلوا ذلك لأنهم مأجورون، وظيفتهم أن يحموا الطغاة والخونة من غضب الشعب ومقاومته، وحينما يعجزوا عن ذلك يظهروا جبروتهم وفظاعاتهم تجاه المدنيين العزل، كلهم مرتزقة، من حثالة المجتمعات، وحثالة الرجال وحثالة التاريخ، بين كل ذلك الجمع من ذوي الوجوه القميئة والمشوهة والشائنة والخائفة، وحدك كنت الشامخ والقوي والعزيز.
أيها الصحفي الأسير لقد سكنت في قلوب مئات الملايين من أبناء أمتك، ومئات الملايين من أحرار العالم، كل أم في هذا الوطن المتسع تدعو لك في كل حين، كل شيخ يقف خاشعا أمام ربه في الصلاة يدعو لك، كل رجل وشاب صرت له مثلا وأنموذجا، كل صبية في هذا الوطن صارت تتمنى أن يكون فارس أحلامها رجلا مثلك، حتى تراب بلادنا وحجارتها صارت تتطلع إليك.
أيها العراقي الصميم، بعبقريتك الفذة استطعت أن تكثف "نظرية التحدي والاستجابة"، وتكشف عن الوجه الحقيقي للعراق ، عراق الحضارة والبناء ، عراق المقاومة والتحدي، عراق الأمل والقوة والمستقبل، لقد ساهمت في لحظة تاريخية فارقة في أن تثبت لبلدك وجهه الحقيقي الذي ما برح المقاومون والمجاهدون يرسمونه ويعززونه بأعمالهم المجيدة منذ أن وطئ المحتل عراقنا المجيد.
يا وجه العراق الوضاء، يا "منتظرالزيدي" أيها الرجل الذي استجاب بسرعة للتحدي فما أطال انتظارنا، أقول لك ـ ما قاله شاعرناـ وأنت أحق ما يقال فيه هذا :
قلبي معك
قلب العروبة كلها في سجنك الداجي معك
يا عارفا بين الحديد من الرسالة موضع
قلبي معك
حلب / سوريا
16 / 12 / 2008
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية