اليوم وبعد أن شاهدت ضمن عروض مهرجان دبي السينمائي آخر أفلام المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد "أيام الضجر" الذي سبق وشارك في مهرجان القاهرة السينمائي الشهر الماضي، وحصل على جائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان دمشق السينمائي الذي أقيم الشهر الماضي أيضًا، والتي حصل عليها بالتأكيد ليس لرداءة الأفلام المنافسة فقط، بل وأيضًا لكونه فيلم الدولة المنظمة للمهرجان، فإضافة إلى الإحراج الذي يشعر به أعضاء لجان التحكيم وهم أمام فيلم يخص الدولة المضيفة، غالبًا ما تلجأ (حسب معرفتي) مؤسسة السينما السورية منتجة الأفلام ومنظمة المهرجان (في نفس الوقت) للتدخل لدى لجان تحكيم مهرجانها، وعبر دوراته المتعاقبة، مطالبة بجائزة للفيلم السوري المشارك، بحجة أن الدولة ستكف عن دعم السينما فتغلق المؤسسة وتعلّق الإنتاج وتوقف المهرجان، ما لم يحصل الفيلم السوري على جائزة في مهرجانه السينمائي..
اليوم وبعد أن شاهدت "أيام الضجر" كخاتمةٍ لسلسلةٍ من الأفلام الرديئة المستوى، البدائية المعالجة، الساذجة المواضيع، التي دأبت المؤسسة على إنتاجها في السنوات الأخيرة، أستطيع القول أسِفًا بأن زمن السينما السورية الجميل قد انتهى، وأن الفيلم السوري الذي كان غالبًا ما يحتفى به، ويكرّم مخرجه في كل المهرجانات السينمائية المحلية أو شبه الدولية، قد غدا ضيفًا ثقيلاً، يحصل على الجوائز إما لأسباب سياسية، أو لهبوط مستوى الأفلام المنافسة له، فالأفلام السورية المنتجة منذ سنوات تظهر سيطرة المخرجين الهامشيين من الدرجات الثانية والثالثة على إنتاج مؤسسة السينما السورية، وتوضح الغياب الكلّي لمخرجي الصف الأول في السينما السورية الذين منحوها سمعتها واسمها بدءًا بنبيل المالح ومرورًا بسمير ذكرى ومحمد ملص وانتهاءً بأسامة محمد، فمهما كانت ملاحظات النقاد والمهتمين بالشأن السينمائي على أفلام هؤلاء، أو على طريقة إدارتهم لعملية الإخراج، أو على توجهاتهم الفكرية، أو على ميزانيات بعض أفلامهم، إلاّ أن ذلك لا ينقص من أهميتهم، ولا يجعلهم في مستوى واحد مع مخرجي السهرات التلفزيونية التي تقدّم باعتبارها أفلامًا سينمائية، مثل عبد اللطيف عبد الحميد وريمون بطرس وغسان شميط ومن في سويتهم.
في "أيام الضجر" يجد المشاهد نفسه أمام كارثة سينمائية حقيقية على مختلف الصعد، والشعور الوحيد الذي يحس به هو الضجر، بدءًا من القصة المفككة والمملة والخالية من أي صراع درامي لعسكري من الساحل السوري يخدم على جبهة الجولان مع إسرائيل (يجسّد دوره أحمد الأحمد نظرًا لفقر الشخصية دراميًا بمستوى يقل كثيرًا عما يمتلكه من قدرات تمثيلية سبق واستثمرها في أدوار عديدة في الأعمال التلفزيونية التي شارك فيها) في سنة الوحدة المصرية السورية الأولى عام 1958، ويعيش مع زوجته (تجسد دورها ريم زينو عبر أداء صوتي نمطي لشخصية امرأة من ريف الساحل السوري) وأولاده الأربعة حالة اللاحرب واللاسلم واللافعل، باستثناء العراك بينه وبين أولاده، والفعل الجنسي مع زوجته، ثم وبسبب نزول الجيش الأمريكي في لبنان يرسل عائلته إلى قريته في ريف الساحل السوري، حيث تجهض امرأته بدون سبب منطقي إلاّ الرغبة بتقديم إيحاء عن سقوط الأحلام وانكسارها، ويشعر أبناؤه الأربعة بالضجر، إلى أن يعود هو أخيرًا بعد أن أصيب بلغم، ملفوف الرأس بشكل كاريكاتوري، بحيث لا يظهر إلاّ فمه، وينتهي الفيلم بنفس الطريقة التي بدأ بها خاليًا من أية متعة، عبثيًا في المقولة، مستهلكًا في تصوير الشخصيات الساذجة، والإيفيهات الغبية، والحركات المفتعلة، التي سبق لعبد اللطيف عبد الحميد أن كررها في معظم أفلامه، بحيث تحولت إلى نمط ممل يفتقد دهشة المفاجأة.
لن أدخل في جدال حول التشابه الذي يصل إلى حد التماهي الذي أراد المخرج التأكيد عليه، بين حالة المنطقة عام 1958 زمن حدث الفيلم وبين حالتها اليوم، والتي حاول الفيلم مقاربتها بدون أن يمتلك الأدوات الفنية لتحويلها من مجرد فكرة أو حديث ثرثرة إلى صورة وشكل سينمائي، سواء في موضوع جبهة الجولان التي لا يحدث عليها شيء كما يقدمها الفيلم عبر الصورة، أو في موضوع دخول القوات الأمريكية إلى لبنان، دعمًا للحكومة المؤيدة للأمريكيين ضد المعارضة المقربة من سورية، أو في موضوع التطورات في العراق والانقلاب على الحكم الملكي كما يقدمهما الفيلم صوتيًا عبر نشرات الأخبار التي تذاع من الراديو، لأن الحديث عن زمن حدث الفيلم الذي حدده المخرج عام 1958 سيضطرني لطرح أسئلة عن دقة ما أورده عبد اللطيف عبد الحميد من الناحية التاريخية، وطرح أسئلة من قبيل أنه إذا كانت الوحدة السورية المصرية قد أعلنت عام 1958 أليس من المبكر أن يتدخل الضباط المصريون في الجبهة السورية ويتحكموا فيها بالطريقة التي ظهرت في الفيلم في نفس العام؟ وإذا كان الجيش السوري في ذلك الزمن يحصر دخول الجيش بأولاد المدن وأبناء العائلات الكبيرة، فهل من المعقول أن ثلاثة أرباع العسكريين على الجبهة ينتمون لريف الساحل السوري كما تدل عليهم لهجتهم، أو كما يظهر من لهجة عائلاتهم التي ركبت في باص واحد عائدة إلى قراها؟
ناهيك عن تفاصيل أخرى صغيرة مثل استخدام أغنية (مصطفى يا مصطفى) المصرية في الفيلم الذي تدور أحداثه عام 1958، في حين أنها تنتمي لعقد الستينيات من القرن الماضي، وسفر أخ الزوجة (أدّاه معن عبد الحق بشكل تهريجي) من ريف مدينة اللاذقية إلى بيت أخته على الجبهة بدون أن يخبر عائلته، وعودته بعد دقائق قليلة إلى قريته، في زمن كان السفر فيه مشقة لمسافة قصيرة، فكيف إذا كان المشوار يتجاوز الأربعمائة كيلومتر؟
في كل مشهد، بل في كل لقطة من الفيلم سيعثر المدقق على أخطاء تتعلق بالمرحلة التاريخية التي يدور فيها حدث الفيلم، وسيجد نفسه مضطرًا للمقارنة بينها، وبين المشهدية التاريخية المبالغ في دقتها وأناقتها لما يقارب تلك المرحلة والتي أنجزها محمد ملص في فيلمه "الليل"، ناهيك عن المشكلات الدرامية في الحدث والشخصيات، والبدائية في الأفعال في محاولة لتسول ضحكة من المشاهد، والفقر في الصورة التي تدل على ركاكة الإدارة الإخراجية أكثر من كونها هدفًا فنيًا.
أخيرًا لو سئلت عن هدف المخرج من فيلمه "أيام الضجر" أستطيع أن أقول بثقة وبعد تمعّن في تفاصيل حكايته وصورة مشاهده وعمل ممثليه: إن عبد اللطيف عبد الحميد حصل على فرصة لصنع فيلم يضاف إلى قائمة أفلامه عدديًا وإلى رصيده ماليًا، ورغب بألاّ يضيّعها، فكان فيلم "أيام الضجر" ليس أكثر!
إشارات
كل مهرجانات السينما في العالم تعتبر الإعلاميين جزءًا من حفلي افتتاحها وختامها، لكن إدارة مهرجان دبي السينمائي الخامس ورغبةً في التميّز كعادتها أرادت إدخال تطوير نوعي على مهرجانها، فمنعت هؤلاء من حضور حفل افتتاح مهرجانها أول أمس الخميس!
ورغبة من إدارة المهرجان بملء أوقات الفراغ لدى حاملي بطاقات مهرجانها (من ضيوف وصحفيين)، عثرت على طريقة مناسبة لإشغالهم، عبر منعهم من حجز بطاقات الأفلام التي يودون حضورها طوال أيام المهرجان دفعة واحدة، كما جرت العادة في الدورات السابقة، وسمحت لهم بحجز بطاقات الأفلام ليومين متتاليين فقط، ولهذا السبب لن أستغرب في حال وجدت مقالات تتناول بالنقد القسم الثاني من أي فيلم يعرض في المهرجان، لأني سأعرف عندها أن زمن النصف الأول قضوه وقوفًا في طوابير حجز البطاقات!
أما ألطف إجراء قامت به إدارة المهرجان مع الإعلاميين فتمثّل بتحديد حصة كل إعلامي بـ15 فيلمًا تتيحها له بطاقته، في تعبير واضح منها بأنه لا يوجد أكثر من 15 فيلمًا يستحق المشاهدة في المهرجان!
من خلال مراقبتي لطوابير حجز التذاكر، وجمهور المشاهدين في الصالات التي شاهدت فيها أفلامًا حتى الآن، يمكنني وصف المهرجان بأنه مصري أو سوري أو لبناني أو انكليزي أو هندي، لكنه بالتأكيد ليس إماراتي حتى الآن، وأتمنى أن تكذبني الأيام القادمة!
تجميل صورة البلد أحد أهداف أي مهرجان سينمائي، لكنه ليس الهدف الأول لأي مهرجان، فالثقافة والمناقشات السينمائية هي التي تعطي أي مهرجان قيمته وليس طول أو عرض أو نظافة السجادة الحمراء!
• لايزال (كتالوج) مهرجان دبي السينمائي كعادته كل عام مشغولاً بكلام مثل: العرض الأول في العالم، والعرض الأول في الشرق الأوسط، والعرض الأول في الخليج، رغم أن بعض الأفلام المعروضة فيه دارت ولفت على مهرجانات كثيرة، وبعضها حصل على جوائز من تلك المهرجانات!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية