بثيابهم الرسمية الأنيقة، وسياراتهم "الجيب" الفارهة يعبرون من أمام خيمتها كل صباح، يعرفون عن أنفسهم من وراء نظارتهم السوداء، يختلفون في مناصبهم ومهامهم وألقابهم والمنظمات التي ينتسبون إليها أمام أعين الطفلة المشلولة "مريم فضل الله أبو علي" ابنة الأعوام السبعة، لكنهم يتشابهون جميعاً بأنهم على عجلة من أمرهم، فلا وقت لديهم ليهدروه باحتضان جسد الطفلة النحيل، أو حتى لرفعه -ولو مجاملة- من بين أكوام الدمع والقهر التي نثرتها الأم الأرملة "عليا" داخل أركان الخيمة الباردة، وهي تشهد فصول الموت المتكالبة على جسد طفلتها الهزيل المقعد وما يعانيه من تداعيات مرض "الضمور الدماغي" الذي استوطن جسدها من لحظات ولادتها الأولى.
يقول آخرهم وقد بدا عليه التأفف والضجر إنه من منظمة " مكافحة الجوع"، قال ذلك وهو يعيد ترتيب "لوحته الاسمية" المكتوبة بخط نافر جميل بعد أن انحرفت لليسار قليلا فوق "كرشه" الممتلئة، والنافرة هي الأخرى.
بينما تقول الأم "عليا" وهي تعيد ترتيب ثوب طفلتها "مريم" الذي بدا أنه انحرف لليمين قيلا عن بطنها الضامر الخاوي من ليلة الأمس إنها من مخيم "الفلاطنة".
بدا الاسم -مكافحة الجوع– طنانا داخل تلك الخيمة الفقيرة لأبسط مقومات الحياة.
"زمان الوصل" علمت من "سميح الأطرش" طبيب الطفلة أنه لا سبيل لاستقرار حالتها إلا بنظام غذائي صارم فمرضها "الضمور الدماغي"، أو كما أسماه "نقص الأكسجة الدماغية" يجعلها ضمن شريحة الأطفال الذين وصفهم بـ"النباتين" وهي بحاجه لتناول حليب نباتي من نوع خاص "MSUD Maxamaid" ويعتبر غالي الثمن بالنسبة لأرمله تربي طفلتين، كما أنها بحاجه لأنواع كثيره من عصائر الفواكه والخضار لتأمين حصة كافيه من الفيتامينات اللازمة للنهوض بجسدها الهش الهزيل، ناهيك بحسب إفادة الطبيب نفسه عن مجموعه أدويه من المقويات وغيرها على الطفلة أن تتناولها بشكل يومي.
الأم "عليا" التي فقدت زوجها من عام 2012 في بلده "مهين" السورية قالت "إنها تعاني من إهمال كافه الهيئات والمنظمات الطبية والإغاثية والأممية لطفلتها، فما من جهة في لبنان تكفلت بتقديم ولو "كيل حليب" واحد لطفلتها المريضة، وهي الأرملة وبالكاد تستطيع القيام بتأمين طفلتيها بعدما فقدت زوجها.
تحدثت الأم عن عبء مادي لا يقل إرهاقاً لها عن عبء غذاء الطفلة وعصيرها اليومي، فمشكلة "الحفاضات" التي تسخدمها الطفلة بكثرة تزيد من توتر الأم وقلقها من كيفية تأمين تلك المصاريف الباهظة الإضافية والواجب عليها تأمينها لرعاية طفلتها المقعدة.
وما زاد في الطنبور حزنا ونغما كما تضيف "عليا" أن الأمم المتحدة قد فصلتها وطفلتيها من برنامجها الإغاثي والغذائي، وما من أي مردود مادي يعين الأم المنكوبة على سد حاجات طفلتيها من دواء وغذاء ونحوه.
داخل خيمتها الباردة في مخيم "الفلاطنة" وهو أحد مخيمات "عرسال" تواصل الطفلة "مريم" زحفها نحو الباب علها تعثر على بعض أشعة الشمس التي تعيد لجسدها البارد شيئا من الدفء والحياة، أو علها تجد "نخلتها" لتهزها فتساقط عليها "رطباً جنياً"، ولربما تمكنت من نزع حصتها من "الحليب" لهذا الصباح من أفواه أولئك المسرعين بمواكبهم وسياراتهم الفارهة الذين يرمقونها على عجل من خلف عدسات نظاراتهم السوداء، والذين ترمقهم هي "بقرف" وقد آثرت أن ترسمهم على حدقتي عينيها الحزينتين "المحولتين" كـ"أكلة لحوم البشر".
عبد الحفيظ الحولاني - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية