أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

نظـــــــــــــــــام ... * خالد عاشور

أراه ككل يوم وأنا ذاهب إلى عملي.
يأتي مبكراً قبل أن أمر عليه. ويكون قد وضع منضدته الخشبية أمام مصلحة الجوازات والهجرة. ربما أختارها دوناً عن المصالح الحكومية الأخرى لكثرة الناس حولها من العمال البسطاء الباحثين عن فرصة للهروب من الوضع القائم والمتعسر دوماً بالبلاد. دائماً ما يضع خلفه لوحة من الورق المقوى. ربما كتبها بنفسه. فالخط فيها مهتز يميل إلى الأسفل ويعود. يسندها إلى الحائط وقد كتب عليها "هنا قسم الشرطة". على المنضدة تستقر لوحة أصغر كتب عليها اسمه ومن تحته "مساعد أول بوزارة الداخلية".
هو في قعدته المعتادة خلف المنضدة يرتدى لا يزال زيه الميري. رغم معرفتي بتقاعده من الخدمة.! إصراره ورفضه الدائم مؤكداً لنفسه أنه لا يزال كما كان بها. يصرخ إذا ما أقترب منه أحد المارة ممن يجهله ليسأله عن شيء:
- نظام.. كله بالنظام يا بقر.
وأكون قد تجاوزته حين يبدأ شجاره مع السائل وقد التف بعض المارة ليفصلوا بينه وبين الرجل وهو يهدد ويتوعد بأنه لن يتركه إلا في المعتقل. ويصلني صوته ضعيفاً قبل أن يهدأ وهو يعود إلى قعدته خلف المنضدة:
- شعب جبان.. النظام يحكم يا بهايم.. هنا قسم شرطة مش زريبة.
في عودتي أراه على حالته لم يغيرها. يجذب نحوه أحياناً بعض الصبية من أطفال الشوارع. يكون منهم طابوراً بعد أن يخيفهم بزيه الميري وصراخه الذي لا يتوقف وهو يضربهم بعصاً يمسكها دائماً. يقف مشيراً لهم برأسه:
- انتباه.. نظام يا شعب يخاف ما يختشي.
كلب أجرب يقف بعيداً عنه على الناحية الأخرى من الشارع. يضربه بعنف كلما حاول الاقتراب من مجاله فيفر هارباً مبتعداً عنه في خوف.
أتركه وأمضي دون أن ألتفت إليه. وحين تقع عيني عليه أتحاشى نظرته. أشعر وكأنه يحتقرني. شيء ما في نظرته المتعالية تجعل من ينظر إليه يخشاه. زيه الميري - رغم قذارته - يكسبه هيبة. وأسأل بعض الزملاء عنه. ويقول أنه جن بعد التقاعد. ويقول آخر أن جميع الضباط بالقسم يعرفونه وأن أحداً لم يعترض على ارتدائه الزى الميري رغم تقاعده. وأحاول جاهداً حين أمر عليه أن أبتعد عنه ربما أصابتني عصاه أو قذفني بكلمة قبيحة من كلماته التي يوزعها على المارة طول النهار. حتى أن كثيراً منهم تعود عليه فلا يرد حين يسبه.

***
ويأتي اليوم الذي أمر ولا أجده..
وأقول أنه ربما تأخر وأراه عند عودتي. غير أنني حين أعود لا أجده.
وأؤكد لنفسي أنه سيأتي في اليوم التالي.
أسبوع كامل لم أره في مكانه وقد خلا المكان تماماً إلا من اللوحة الورقية والتي كتب عليها "هنا قسم الشرطة". تستند إلى الحائط وقد غطاها التراب. وبهت لونها.
الكلب الأجرب رأيته يقترب منها. حك جسده فيها بجنون حتى أدماه والتصق دمه باللوحة. توقفت لأراقبه. أتخيل لو أن الرجل عاد ورآه لابد وأنه سيقتله. فهو لم يكن يسمح لأحد بالاقتراب من مكانه. وحين لاحظ الكلب أنني أراقبه كف عن حك جسده الأجرب باللوحة ووقف مقوس الظهر في إستكانة. رفع رجله نحو اللوحة وبال عليها. ابتسمت وأنا أراه ينفض جسده الأجرب بعد أن انتهى من بوله. وأخذ يمزقها بأظافره في إصرار. وقد أختلط الحبر الذي كتبت به اللوحة ببوله فاختفت ملامح الكتابة.
وقفت للحظة ناظراً نحوه. وحين عدت إلى السير رأيته يسلك طريقه مبتعداً عنها. غير أنه كان يقف للحظة ناظراً نحوها. ثم يعود إلى السير.

 


[email protected]

 

 

* قاص من مصر
(103)    هل أعجبتك المقالة (100)

مازن

2008-11-28

القصة بها اسقاط ذكي وتناول سهل ممتنع للغة. والعمق السردى الموجز يوحى بأشياء أبعد من المكتوب ويفصح عن المكنون المرعب للسلطة العربية والأنظمة العقيمة التى لا تريد أن ترحل. شكرا للكاتب على إمتاعنابتلك القصة.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي