فمن الخليج إلى المحيط ، ومن المحيط إلى الخليج
كانوا يعدّون الجنازة
وانتخاب المقصلة
جسدي هو الأسوار - فليأت الحصار
وأنا حدود النار - فليأت الحصار
وأنا أحاصركم
أحاصركم
وصدري باب كل الناس - فليأت الحصار).
محمود درويش.
كم هي جميلة هذه الأبيات في تحدي الموت والحصار وانتصار معلن وشامل على كل الوحوش الآدمية والغزاة.
نعم غزة هي التي تحاصرنا اليوم. وهذا هو لسان حالها، وقد أصبحت هي حدود الموت وحدود العزة والكرامة، وتغفو على تخوم الدم والنار وعلى أطرافها فقط تكتب، وبمداد من دماء وقهر ومجاعة وإملاق، أعظم أساطير التحدي وملاحم الفخار،.
غزة تهزمنا اليوم جميعاً وتكتب تاريخاً عظيماً عن تحدي الموت والإصرار على الحياة، مسطرة أروع ملاحم البعث والنشور، لشعب يرفض الاستسلام ولن يموت، وكطائر خرافي ينهض كل مرة من تحت الركام والرماد. أما نحن فأصبحنا أمواتاً ولا يحرك فيهم الموت والحصار أية نخوة، وأية روح، وأية حياة؟
فمن يحاصر من؟ ومن يقتل من في هذه الحال؟
فكفوا عن حصارنا، وكفوا عن قتلنا يا أطفال غزة الأبطال؟ كفوا عن إيلامنا إلى هذه الدرجة التي لا تطاق؟
كفوا عن إهانتنا بهذا القدر الذي لا يرحم فنحن في أسوأ وأحط حال، وأبأس زمان. فكفاكم جلداً وذبحاً وقهراً لنا فلم نعد نقوى على "عنفكم" هذا على الإطلاق.
لقد فضحتم نفاقنا العروبي أيها الأطفال، برغم كل آلات الرياء والضجيج والزعيق القومي والسلفي المتناثر والمتسلق في الفضاء على حبال البترودولار، ولم يبق لنا أي ستر أو غطاء. لقد بانت عوراتنا وضعفنا وعجزنا وهزالنا وهواننا وخواء وبؤس خطابنا، وكذب جعيعنا وجعجعتنا وزعيقنا البرّاق، وهوت إلى القاع كل تنطع لنا وضوضائنا الفارغة التي يفتعلها الأعراب وأزلامهم وغلمانهم وخصيانهم هنا وهناك.
أنتم اليوم في أقوى موقع تتبوؤنه على الإطلاق. فأنتم من يفرض شروط المعركة، ويعلن شروط الانسحاب، وأنتم فقط من سيحدد لنا شروط استسلامنا أمام روعة صمودكم الأسطوري في وجه أعتى آلات الموت.
فأطفال غزة هم المتخمون بالبطولة والبسالة والتحدي ونحن الجائعون المنهارون المفلسون.
وأطفال غزة هم الأغنياء "برغم أزمة المال العالمي"، ونحن الفقراء المتسولون المعدمون.
أطفال غزة هم الأقوياء الجبابرة ونحن العاجزون الأعنة الخائرون الخائبون المندحرون.
وأطفال غزة هم من سيحررنا ويخلصنا من كل عذاباتنا وآلامنا، فنحن متواطؤون ومتآمرون مع الأعداء ونرفع لهم الأنخاب هنا وهناك، ونرضخ فوراً، ومن دون قيد أو شرط، للأشرار و"نتفهم"، دون صعوبة أسباب الحصار.
وأطفال غزة يتوهجون نوراً وكرامة تشعّ على الجباه، ونحن من تلفهم العتمة والوحشة والظلام، فنوّروا علينا، نوركم الله أيها الأعزة والأحبة الصغار.
وأطفال غزة هم الأعزة وهم الكبار الراشدين الأصحاء، ونحن الأذلة المعاقين ومن يبدون أمامهم صغاراً صغاراً؟
أنتم الأحرار، فقط، فنحن نقبع في "الوطن العربي الكبير"، أكبر سجن مفتوح في التاريخ في الهواء الطلق، على الإطلاق.
وأنتم من يشكل فعلاً خطراً ماحقاً، وحقيقياً على آلات الموت والدمار ويهدد الجيوش الجرارة وحاملات الطائرات.
إنا نشكوكم عجرنا وبجرنا، وضيق حالنا وبؤس أوضاعنا التي تزيدون في ضعفها، وتساهمون في كشفها وتعريتها إلى حدود الفضيحة وترنح المبادئ وهتك الأعراض والأخلاق.
غزة هي التي باتت تحاصرنا، الآن، فبادروا إلى إنقاذنا من هذا الجحيم، وهذا الذل والعذاب.
وغزة هي التي تجرعنا الحنظل والعلقم والمرارات، وجعلتنا صغاراً، صغاراً في عيون كل الناس.
وغزة تحرجنا جداً فأريحونا، أراحكم الله، من كل هذا الإحراج.
وغزة تذبحنا، وتنحرنا، كل يوم عشرات المرات فاعتقوا رقابنا رأفة بنا، وسنـّة سنـّها السابقون وأنبياء الله.
وغزة تجرحنا بسكاكين صمتنا وهواننا، فداوونا بترياق الكرامة والشرف المهدور أيها السادة النجباء.
وغزة تهزمنا بتحدي الموت والحصار، كل لحظة، فانجدونا من وطأة الذل، ووقع الهزيمة، وآثار الهوان.
وغزة تجلدنا كل يوم عشرات المرات، فهل هذا "حكمها" في شرائع الغاب؟ وافتوا لنا يا سادتي الفقهاء.
( وفتوى من مال الله. بالمناسبة، ألا تستحق مذبحة غزة فتوى عابرة وعلى الماشي "هيك يعني Take Away"، من وعاظ السلاطين وشيوخ البلاطات)؟
وغزة هي التي تمارس دور البطولة المطلقة في مسرح مفتوح في العراء، ونحن العبيد لأسيادنا وراء البحار والتـُبـّع والكومبارس. وهي التي باتت تقسو علينا وتستعبدنا بلا رحمة أو شفقة، أيها السادة الكرام، فحررونا من هذه العبودية والرق والاستعباد.
وليأت الحصار. وليأت الحصار. وليأت الحصار، فلن يساهم إلا في هزيمة الأعراب. وأية هزيمة مفجعة نكراء؟
فليأت الحصار. فليأت الحصار. فليأت الحصار.
ملاحظة على الهامش "براني": لماذا لم تعلن إسرائيل عن رغبتها ببيع هدايا الشيوخ ونشامى العرب الكرام لها إلا في عز حصار غزة؟ كم هي قاسية وظالمة وغدارة هذه الـ"إسرائيل" بحق حلفائها الأعراب، فهي، وعلى ذمة الراوي، وبعض الخبثاء، تحاصرهم أيضاً، ولا تأخذ لهم أي خاطر، ولا تقيم لهم أي وزن، ولا تشيل لهم أي اعتبار؟
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية