مع اقتراب تحريرها بالكامل .. "رائحة الموت" تروي مأساة حرب الموصل

من حارات الموصل... موت وخراب - الأناضول

وحدها لا غيرها، تبقى رائحة الموت والدمار، هي الراوي المعتمد لمأساة حرب الموصل، شمالي العراق، تلك المدينة التي باتت قاب قوسين أوأدني من التحرير بالكامل من قبضة تنظيم "داعش" الإرهابي، إثر حرب مستمرة منذ أكثر من ثمانية أشهر.

فمظاهر الموت والخراب تملأ الأرجاء، والناجون من البشر شاحبو الوجوه وأجسادهم نحيلة، خائفون، جياع، مرضى، لا يقوون على الكلام أو الحركة، عيونهم فقط تتحرك وتسرد مآسي الحرب.

فهذا فقد عائلته بالكامل، وتلك أم تبحث عن أبنائها وزوجها، وذاك أب فقد ساقه ويده وزوجته وأطفاله، أما المشهد الرابع فكان لطفل فقد عائلته ليتلقفه الجنود وينتشلوه من الجحيم.

تلك المشاهد المأساوية رصدتها عدسات فريق الأناضول الذي تمكن من التجول بالجانب الغربي للموصل والوصول إلى قرب خط التماس للمعارك بين القوات العراقية والتنظيم الإرهابي في "المدينة القديمة"، وهي مشاهد كان القاسم المشترك فيها هو "رائحة الموت والدمار".

وأثناء رحلة الفريق الصحفي للأناضول للوصول إلى المناطق التي استعادتها القوات العراقية في المدينة القديمة قرب خطوط التماس، مر بحي "الزنجيلي" الواقع على تخوم تلك المدينة من جهة الشمال، والذي شهد أقوى المعارك وأكثرها ضراوة بين مقاتلي تنظيم "داعش" الإرهابي والقوات العراقية، قبل تحريره.

كان المشهد مروعا، فعشرات الجثث المتفسخة منتشرة على قارعة "شارع معمل إنتاج البيبسي" في الزنجيلي، تعود لأطفال ونساء ورجال ومسنين سحقتهم آلة الحرب دون رحمة، وتركتهم مع أحلامهم على قارعة الطريق لتتفسخ أجسادهم بفعل حرارة الصيف اللاهبة.

يقف أسعد الشهواني وهو في عقده الخامس من العمر على مقربة من شارع "معمل البيبسي"، وهو يرتدي سترة عليها شعار فرق الدفاع المدني لمديرية محافظة نينوى، ويضع كمامة على أنفه لتجنب الروائح المنبعثة من الجثث المتفسخة.

وقال الشهواني للأناضول، بينما كان يحاول لملمة أشلاء طفلة صغيرة: "لقد مضى على تواجد جثث الضحايا هنا أكثر من 20 يوما، وتسبب الارتفاع الكبير بدرجات الحرارة، بتحللها وتشويه معالم وجوه أصحابها لدرجة يصعب التعرف على هوياتهم حتى من قبل ذويهم".

وأضاف، بينما كان التوتر باديا على وجهه، أن "عدد الجثث هنا فقط يبلغ 77 جثة منها 33 تعود لرجال و24 لنساء و20 لأطفال"، مبينا أن "فرق الدفاع المدني انتشلت أكثر من 197 جثة لمدنيين في حي الزنجيلي فقط".

وأشار الشهواني إلى أن فرق الدفاع المدني تنقل الجثث إلى دائرة الطب العدلي (التشريحي) بالجانب الشرقي للمدينة تمهيدا لتسليمها الى ذويها في حال التعرف عليها.

في موقع المجزرة حيث شارع "معمل البيبسي"، كان الرائد عبد الصمد الأحمدي من قوات الشرطة الاتحادية يتجول بين الجثث، ويبحث في ملابس الضحايا وجيوبهم عن أي أوراق رسمية، ضمن مساعي الجهات الأمنية لتحديد هوياتهم.

وقال الأحمدي، للأناضول، بعد أن رفع الكمامة عن فمه وأنفه وبينما كان يحاول الابتعاد بضعة خطوات عن ثلاث جثث متفسخة إلى جانبه، إن "هذه المجزرة وقعت عندما حاول مجموعة من المدنيين العزل يقدر عددهم بمائة شخص الفرار من قبضة تنظيم داعش الإرهابي خلال سيطرته على المنطقة".

وأضاف أن "مسلحي داعش كشفوا أمر الفارين فأمطروهم بالرصاص دون تمييز بين كبير أو صغير".

وقال إن "القوات العراقية كان تسمع في الأيام الأولى للمجزرة صرخات بعض الجرحى إلا أنها لم تتمكن من إنقاذهم بسبب قناصة داعش فماتوا جميعا".

وأشار الأحمدي بيده إلى جثة فتاة كانت لا تزال تمسك بيدها حقيبة صغيرة وردية اللون فيها أقلام ودفاتر رسم، لكن أكثر ما أثر في نفسه هو وصية رجل مسن كتبها على ورقة صغيرة وحشرها في أحد جيوبه.

تحرك الأحمدي نحو كيس وضعت فيه جثة الرجل المسن واسمه خالد عارف، وأخرج منها الورقة التي أوصى فيها بدفنه إلى جانب قبر ابنه البكر أحمد، ومنح منزله لأبنائه الذين أصبحوا مشردين بعد أن مات والدهم بنيران الحرب في الجانب الشرقي للمدينة.

عند الوصول إلى المدينة القديمة كان مشهد الدمار هائلا، منازل مدمرة بشكل كلي وأخرى سقط أجزاء كبيرة منها وعربات متفحمة وشوارع لا أثر لها، وأطلال تحولت إلى ما يشبه مدينة أشباح لا وجود للبشر فيها.

قبل الوصول بقليل إلى موقع جامع النوري الكبير التاريخي الذي دمره تنظيم "داعش" في المدينة القديمة، كان 3 جنود يقفون عند باب عمارة محترقة جزئيا وقد بدى عليهم الإنهاك.

والجامع هو الذي شهد الظهور العلني الوحيد لزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، قبل ثلاثة أعوام، وأعلن من على منبره قيام "دولة الخلافة" على أراض عراقية وسورية.

وقال أحد هؤلاء الجنود للأناضول والذي يكنى من قبل أقرانه بـ"البرق المرعب" واسمه الحقيقي ضرغام علي: "لقد شهدت هذه المنطقة 13 يوما من القتال العنيف والقصف الجوي ضد تنظيم داعش ما أدى إلى تعرضها لدمار شبه تام".

وأضاف أن "هناك أكثر من 37 منزلا في المدينة القديمة يتواجد تحت انقاضها جثث لضحايا مدنيين، وان القوات لا تمتلك الجهد الكافي لإخراجهم، وأن رائحة الموت المنبعثة من الجثث المتحللة، أصبحت تشم من على بعد مئات الأمتار".

فيما قال الجنود الثلاثة إنه تم انتشال 80 جثة لمدنيين من منطقة الفاروق لوحدها، ضمن المدينة القديمة، وأن جثث العشرات ما زالت تحت أنقاض المنازل.

الجنود أشاروا إلى أن هناك من مات من العطش وآخرون ماتوا من الجوع وهم في طريقهم للهرب من مدينة الموصل التي تشهد منذ أكثر من ثمانية أشهر، واحدة من أشرس المعارك الدموية في التاريخ الحديث.

وتدور في هذه الأثناء معارك بين القوات العراقية ومسلحي "داعش" في منطقة المدينة القديمة، بالجانب الغربي من الموصل، والتي بتحريرها تكون الحكومة قد استعادت كامل الموصل، آخر معقل رئيسي للتنظيم في العراق.

واستعادت القوات العراقية أغلب مناطق المدينة القديمة، البالغ مساحتها نحو كيلومترين مربعين، ولم يتبق لتنظيم "داعش" بها، سوى جيب صغير مطل على الضفة الغربية لنهر دجلة.

وفي وقت سابق اليوم، قال وزير الهجرة والمهجرين العراقي جاسم محمد الجاف، إن عدد النازحين من مدينة الموصل والمناطق المحيطة بها بلغ 920 ألف شخص منذ انطلاق الحملة العسكرية لاستعادة المدينة من سيطرة تنظيم "داعش" في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

الأناضول
(106)    هل أعجبتك المقالة (104)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي