أمضيت نصف أيام الأسبوع الماضي في دمشق ،مشاركاً في ندوة الأكاديمية العسكرية العليا/ كلية الدفاع الوطني حول منطقة الشرق الأوسط الفرص والتحديات. وعلى كثرة مشاركاتي في ندوات ومؤتمرات محلية وإقليمية وعالمية، فإنني استطيع القول بأن ندوة الأكاديمية العسكرية العليا في دمشق كانت واحدة من الندوات القليلة والمميزة، التي تشهدها بلادنا.
من حيث دقة اختيار الموضوعات وتكاملها من جهة، ومن حيث المحافظة على الوقت والبرنامج الزمني للندوة من جهة أخرى .بعد أن صار هدر الوقت وعدم احترام المواعيد سمة من سمات المؤتمرات والندوات واللقاءات العربية وهو ما تخلصت منه ندوة كلية الدفاع الوطني في سوريا.
آفة أخرى تخلصت منها ندوة منطقة الشرق الأوسط الفرص والتحديات، هي آفة الحضور البروتوكولي للمسؤولين. فما حدث في دمشق أن كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين الذين لمواقعهم ومهمامهم الوظيفية علاقة بمحاور الندوة كانوا يواظبون على الالتزام بالحضور والمشاركة بها، سواء من خلال التعقيبات والمداخلات ، أو من خلال طرح الأسئلة أو المشاركة بالإجابات ، الأمر الذي جعل حضورهم مفيداً ، بل ومطلوبا على عكس مايحدث في الكثير من البلاد العربية .حيث تكون مشاركة المسؤولين بروتوكولية لكنها تحدث خللاً في برنامج الندوة من حيث الوقت والاجراءات البروتوكولية مما يجعله حضوراً ثقيلاً غير مفيد وغير مطلوب.
ومن الميزات التي توفرت لندوة كلية الدفاع الوطني أيضاً ،السقف العالي لحرية الرأي ، سواء في الأوراق المقدمة التي ارتفع بعضها إلى مرتبة تصلح أن تكون فيه برنامج عمل في المجال الذي تناولته ،أو في الحوارات والمناقشات. مما جعلها ندوة غنية خاصة من حيث المعلومات الدقيقة التي قدمت في الندوة والتي اسهم في تقديمها مسؤولون سوريون من أمثال فيصل مقداد معاون وزير الخارجية السوري والدكتور رياض الداودي رئيس الوفد السوري في المفاوضات السورية الإسرائيلية .
ومن المتابعة والتدقيق فيما يقوله المسؤولون السوريون يلاحظ المرء أن هناك تناغماً وتكاملاً بما يقولون . وأنهم يعبرون عن موقف موحد. وهذا يعني أن هناك عقلاً جمعياً موحداً لسوريا الدولة.
وهذه ميزة تفتقر إليها الكثير من دولنا التي نلحظ في كثير من الأحيان أن المسؤولين فيها يغني كل منهم على ليلاه مما يضعف الموقف العام للدولة وأداءها. وهو عيب تخلصت منه سوريا التي تشهد أيضاً تمازجاً كبيراً بين الأجيال وانتقالاً سلساً للتجارب والخبرات وبالتالي فليس في سوريا وزراء دجيتال وآخرون محافظون وليس فيها حرس قديم وحرس جديد يحفر كل فريق منهما للآخر أو يسخر منه.
ميزة أخرى توفرت لندوة كلية الدفاع الوطني، هي ميزة المتابعة للمناقشات والأفكار التي طرحت في الندوة ،وحرصت إدارة الندوة على تحويلها إلى مقترحات محددة قابلة للتطبيق .مما يعني أن هذه الندوة لم تعقد لتحقيق حضور إعلامي على غرار الكثير من الندوات والمؤتمرات العربية، لكنها عقدت لتكون آلية من آليات العمل السياسي المبني على خلاصة تلاقح أفكار ورؤى تعين صانع القرار على اتخاذ قراره بصوابية عالية.
ليس الحديث عن ندوة كلية الدفاع الوطني حول منطقة الشرق الأوسط الفرص والتحديات هو موضوع هذه المقالة، لكنني أردت الحديث عن الندوة كمدخل للحديث عن ما يجري في دمشق. والدور الذي تلعبه دمشق على الصعيد الإقليمي والدولي .ودلالات هذا الدور.فما يجري في دمشق كبير .سواء من حيث العدد،أو من حيث المضامين أو من حيث الدلالات. فدمشق تغص هذه الأيام بالأنشطة العربية والإقليمية والدولية على الصعد كافة السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية في القطاعين الرسمي والأهلي. مما يعني سقوطاً نهائياً لنظرية حصار دمشق وعزل سوريا .وهي النظرية التي تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية وسعت لتحقيقها .قبل أن تضطر صاغرة إلى الاعتراف بدور ومكانة سوريا. وتسعى للتواصل معها. بعد أن رأت أقرب حلفائها يطرقون أبواب دمشق، وينسقون معها، ويعترفون بدورها.
ومن ثم فقد تبين لواشنطن استحالة عزل سوريا. وهذه حقيقة تقود إلى حقيقة أخرى. لاتقل عنها أهمية وهي أن السياسة الأمريكية، والقرار الأمريكي، والإرادة الأمريكية ليست أقداراً لاترد .بل إنها قابلة للهزيمة والانكسار. وما يجري في سوريا أكبر برهان على إمكانية دحر القرار الأمريكي ،وكسر الإرادة الأمريكية ،وإفشال سياستها. فبعد سنوات من التحشيد الأمريكي ضد سوريا والسعي لحصارها وعزلها، هاهي سوريا قبلة العرب وغير العرب.
وهاهي دمشق عاصمة الثقافة والسياسة العربية، وهاهو الألق العربي يلمع في دمشق .وهذا مؤشر مهم فمن حقائق التاريخ الكبرى. أنه عندما تنهض بلاد الشام بمكوناتها الأربعة فلسطين والأردن وسوريا ولبنان يسري النهوض إلى سائر بلاد الأمة، وأوصالها، وصولاً إلى تحرير الأرض وطرد المحتل .فبلاد الشام التي باركها الله بالأقصى هي قلب بلاد العرب والمسلمين وعندما ينبض هذا القلب تسري الحياة في سائر الجسد.
نعم لقد استطاعت سوريا كسر مؤامرة عزلها، عندما أخذت الأسباب، وأولها الثبات على الموقف، وثانيها احتضان المقاومة وحمايتها ومدها بأسباب الحياة .فبفضل الموقف السوري من المقاومة تمكن حزب الله من تحقيق انتصاراته، وتمكنت حماس من الصمود أمام المؤامرة الدولية عليها .ليؤكد ذلك كله أن الصمود والمقاومة هما السبيل الوحيد للأمة كي تنال حقوقها. وأمامنا تجربتان ماثلتان للعيان هما تجربة ما يسمى بمسيرة السلام وماذا حققت للأمة غير المزيد من الانكسار؟ وتجربة الصمود والمقاومة وهي التجربة التي كسرت غطرسة العدو وأنهت أسطورة الجيش الذي لايقهر وأسست للانتصار النهائي للأمة.
أما ثالث الأسباب التي أخذت بها سوريا فهو عدم وضع كل الأوراق في السلة الأمريكية .كما فعل الكثيرون من العرب، الذين يحصدون اليوم الندامة بعد أن حصدوا السراب الذي حاول الأمريكي ، أن يسوقه عليهم سلاماً موهوماً سماه بعضهم سلام شجعان وسماه آخرون السلام العادل رغم أنه لاعدل فيه ولا شجاعة.
ما يجري في دمشق مهم يعطي الكثير من المؤشرات. فإذا أضفنا إليه ما يجري في الكثير من بقاع الأمة نستطيع القول بأن مرحلة جديدة في تاريخ أمتنا تلوح بالأفق.
وأن منحنى صعودها قد بدأ .وهو منحى يحتاج إلى صمود وتضحية وثبات ليؤتي أكله وحدة وحرية واستقلالاً
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية