لم تكن الأزمة الخليجية فرصة للكشف عن عمق ومتانة العلاقات التركية -القطرية وحسب، بل إنها كذلك كانت فرصة للكشف عن أشياء أخرى تخص ما يجري في سوريا، والتحالفات المرسومة على حساب دماء شعبها، والتي تصل حد تقديم السلاح إلى القاتل ليواصل جرائمه.
ربما يكون أمر تسليح بشار الأسد ونظامه لإبادة الشعب السوري واضحا وبديهيا إلى حد المطلق في ذهن هذا الشعب، ولكن هذا اليقين شيء، وتسمية أنقرة لأحد أطراف تسليح الأسد شيء آخر، أولا لأنه لا بد وأن يكون الأمر مبنيا على معطيات ثابتة ودقيقة، وثانيا لأن عواقب هذا التصريح وتداعياته لابد أن تكون محسوبة من أنقرة، التي تريد الاستمرار في الوقوف مع قطر، ولكنها لاتريد في الوقت نفسه إثارة "حساسيات" بعض الدول التي يمكن أن تفشل مساعي الأتراك وغيرهم لوضع حد للتوتر والانشقاق الخليجي.
ولكن هذا ليس كل ما في جعبة تركيا التي حشدت وتحشد على أكثر من جبهة لحل الأزمة، فقد وصف رئيسها "رجب طيب أردوغان" الحصار المفروض على قطر بأنه خاطئ وغير أخلاقي، بل ولا يوافق روح الإسلام، في تصريح لها وزنه ووقعه، عطفا على منصب المصرح الذي يرأس واحدة من كبرى الدول الإسلامية، كما يتولى حاليا الرئاسة الدورية لـ"منظمة التعاون الإسلامي"، المظلة الأكبر والأوسع للدول الإسلامية.
وفيما يعلم الوسط السياسي حجم التنافر التركي -الأمريكي، لاسيما بعد إصرار الولايات المتحدة على تلزيم معركة الرقة لحلفائها من مليشيات "الاتحاد الديمقراطي" وتوابعه، فإن "أردوغان" سيطرح مسألة حصار قطر مع الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، وهي مبادرة جريئة من أنقرة التي يفترض العرف السياسي والدبلوماسي أن تستثمر كل دقيقة من تواصل الزعيمين، في سبيل مناقشة وحلّ المسائل العالقة والشائكة –وما أكثرها- بين واشنطن وأنقرة.
ومع إن "ترامب" زعيم أكبر دولة في العالم، فإن "أردوغان" لن يكتفي بوضع كل بيض الوساطة في سلة زعيم البيت الأبيض، بل سيعمد لبحث الأزمة الخليجية مع زعيم عالمي شاب (بكل ما في الشباب من مرونة ونشاط) هو الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، وذلك عبر دائرة مرئية ينضم إليها أيضا أمير قطر "الشيخ تميم بن حمد آل ثاني".
وبالتزامن أوفد "أردوغان" وزير خارجيته "مولود جاويش أوغلو" إلى قطر اليوم الأربعاء، وأرسل قبل ذلك بيوم واحد وفدا عسكريا إلى الدوحة للوقوف على استكمال إجراءات إنشاء القاعدة العسكرية التركية، وكل ما يخص نشر قوات تركية في قطر، وهي الخطوة التي كان "أردوغان" قد أمر بتسريع تشريعها في البرلمان التركي، ليوقع بنفسه على مرسوم التشريع خلال فترة زمنية قياسية (وقع الرئيس التركي مشروع القاعدة بعد يوم واحد من إقراره في البرلمان)، ومثل هذا التسريع أظهر وكأن ما تقاسيه قطر شأن تركي وليس شأنا قطريا بحتاً، وهذا أمر لاشك أن له دلالاته المؤسسة على أرضية علاقات متينة للغاية تربط أنقرة بالدوحة.
وسيحل وزير الخارجية التركي اليوم ضيفا على الدوحة في زيارة تحمل أكثر من مغزى، لاسيما أن المحطة التالية المزمعة لزيارته ستكون "الرياض" عاصمة الثقل الخليجي، ولكن زيارة السعودية تبقى على ما يبدو رهنا بموافقة الرياض، التي لم تحسم أمرها بعد، ما جعل رأس الدبلوماسية التركية يعلق الزيارة بعبارة "إن أمكنت".
وانطلاقا من دوره كوسيط، ومن موقعه كوزير خارجية ينبغي استخدام أقصى درجات الدبلوماسية، رأى "جاويش اوغلو" أن الأزمة الخليجية "ليست بالمشكلة المستعصية على الحل"، قبل أن يعقب: "لكن الإعلان عن القرارات التي استهدفت احتياجات الناس الأساسية، في رمضان أزعج الجميع بغض النظر عن تطبيقها".
ونوه الوزير التركي بما قدمه أمير الكويت "الشيخ صباح الصباح"، الذي زار الدول المعنية بالأزمة، لكن تحرك الأمير لم يسفر عن أي "مقترح ملموس أو وسيلة تتعلق بكيفية حل الأزمة".
ولم يخف "جاويش أوغلو" الصعوبات التي تحيط برغبته في زيارة الرياض، حين قال: "أعلم أن أخي وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، خارج المملكة، ولكن هناك مسؤولون آخرون وقد تحدثت مع السفير (التركي لدى الرياض) لإعداد البرنامج لزيارة السعودية (عقب زيارة قطر) إذا أمكن".
ولكن حديث "جاويش أوغلو" الذي استبق به زيارته إلى الدوحة، لم يكن كله منصبا على شكل الأزمة الخليجية، بل إن المسؤول التركي الرفيع خاض في تفاصيل يدرك مراقبون ومحللون أنها ذات علاقة بالأزمة، بل إن هذه التفاصيل ربما تشكل جزءا من لب الأزمة، وعليه سيكون الإقرار بها وحلها جزءا أساسيا من حل الأزمة.
فقد ذكّر "جاويش أوغلو" كل من ينبرون لاتهام قطر بـ"دعم الإرهاب والتقارب مع إيران"، بأن مصر التي يحكمها السيسي "دعمت دائما الموقف الإيراني والروسي" في الملف السوري.
وذهب المسؤول التركي أبعد حينما قال صراحة إن القاهرة "قدمت السلاح إلى نظام الأسد"، في وقت وقفت قطر دائما إلى جانب السعودية، والبلدان الخليجية في القضايا الإقليمية".
ولاشك أن رأس الدبلوماسية التركية قد وازن تصريحاته التي تخص "السيسي" وسياسته، وأخضعها للتفكير في العواقب المتأتية عنها، لاسيما أن "السيسي" كان وما يزال الفتى المدلل لدى الرياض وأبو ظبي على وجه الخصوص، وهو فوق ذلك كله "الزعيم" العربي الأوحد الذي نال إعجاب وثناء "ترامب" عليه، حتى وصل هذا الإعجاب والانبهار إلى "جزمة" السيسي!
زمان الوصل - تحليل إخباري
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية