تنظيم "الدولة" بلا شك هو عصابة قاتلة تتداخل فيها أجندات استخباراتية إقليمية ودولية مستغلّة هشاشة المجتمع الإسلامي، وغياب المشروع التنويري للفكر الديني بل وإسهام النخب الدينية في ولادة مرحلة مشوّه من التاريخ أثرت وستؤثر على أكثر من جيل.
دفعتني دراما "غرابيب سود" على إحدى القنوات العربية لتناول ما شاهدته في حلقتين منها، إذ ما تصفه تلك القناة بأنه أضخم إنتاج درامي لا يعدو كونه خليطاً ملتبساً لا يمت إلى الوقائع بصلة، بل يكاد يعطي مفعولا عكسياً لأنه يفترض غباء المشاهد وعدم قدرته على تمييز الأفكار الضحلة والمحاكاة الجنسية السطحية التي تحاول أن تقدم حكاية بوليسية، وليست قصة واحد من أخطر وأقوى التنظيمات التي شهدها التاريخ المعاصر.
دون حكم نهائي عليها تبدو دراما "غرابيب سود" مجرد حلقات جرى ترتيبها على عجل، أو أنها دراما بقرار سياسي سطحي يريد أن يعالج قضايا جوهرية في الفكر الديني والسياسي والاستراتيجي على طريقة برامج "التوك شو" بأن تقول أي شيء ليصبح حديث الناس البسطاء، إلا أن المعركة هنا ليست مع جمهور "طاش ما طاش" وقنوات روتانا الفن وmbc دراما، إنها معركة إما يراد لها أن تطول حتى تتم حلابة جميع البقر، أو أنها ناتج خراب ثقافي ديني متراكم، وإرهاصات ما بعد تداخل السياسة مع الدين مرّة بالتحالف ومرّة بالتواطؤ وثالثة بالعداء والرغبة بالإلغاء.
ليس فكرا عميقاً وكشفياً ذلك الذي تقدمه تلك الدراما، فتصوير قيادة "داعش" على أنها مجموعة من اللوطيين و"النسونجية" مهووسي الجنس هي مجرد قصة "بايخة" تجب مراجعتها دون إلغاء وجود هذا الجانب داخل التنظيم الأسود، لأن من استطاع اجتياح الموصل بما فيها من جيوش وعتاد في ساعات ومن يتمدد ويتقلص داخل سوريا هو تنظيم يملك أذرعاً وخبرات وتقنيات، كما أنه يمتلك استراتيجية خطيرة، وهو ناتج عن حقائق ووقائع تم استغلالها بشكل دقيق وذكيّ وصولا إلى ما يشهده العالم من كارثة غيّرت وجه الشرق الأوسط، وليس معروفاً كيف يمكن أن تكون امتداداتها المستقبلية.
تشير الوثائق المسرّبة عن تنظيم "الدولة" بأنه يملك نظاماً اقتصاديا وعسكريّاً وإداريّاً متطوراً، أضف إلى قدرة على صناعة "البروباغندا" الإعلامية والاستقطاب وغسل الأدمغة، وهو ما لم يظهر في تلك الدراما البائسة التي تعيدنا إلى المسلسلات البدوية وقصص "بطيحان".
كيف جاء "داعش"، ومن أين، ومن الذي موّله وساعد على مرور عناصره قادمين من أوروبا والمغرب العربي ومصر والشيشان إلى سوريا والعراق، وماذا عن تفاصيل ما قبل نشوء هذا التنظيم ونواته الأساسية في العراق، وما هي مراحل تحول جزء من تنظيم "القاعدة" المتوحش إلى حالة توحّش متقدمة.
وللدخول أكثر في عمق مسببات ظهور هذا التنظيم، كيف يمكن تفسير رغبة الآلاف بالموت وهم يعيشون في مجتمعات متحضّرة مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وبريطانيا، وأيّ يأس وبؤس تسببت به مدارس الإفتاء ومنابر الدعاة ورجال الدين في العالم الإسلامي حتى وصلنا إلى هذا الدّرك.
خلال نصف قرن مضى كان واضحاً أن الإسلام يخضع لتيارين اثنين، الأول تيار الإسلام السياسي وما نتج عنه من حركات جهادية راديكالية، والثاني هو تيار الإسلام الحكومي السلطوي وتفرعاته من حركات صوفية ومدارس دين مدجّنة، وكلا التيارين شكلا مفارخ للإرهاب والتطرف، لأن غياب المشروع النهضوي التنويري سيؤدي مع التسلط والفساد إلى ظهور حركات سريّة تتحول بالتدريج إلى تنظيمات تصارع الأنظمة أو تعمل لصالح استخباراتها، ومن ثم فإن إلغاءها لاحقاً يكلف الكثير.
هل تحققت فائدة الإسلام من "داعش" أم أن المنطقة تعيش تحت خطر التقسيم والانهيار، وماذا عن خطاب السلطة الذي هدد وبشّر في بدايات الربيع العربي بسيطرة الإرهاب، من الذي فتح الطريق أما وجود إيران وروسيا وبقية الأطراف في سوريا، ولماذا تدفع المليارات اليوم لمجموعات مسلحة هنا وهناك، وإذا كان نقيض "داعش" هو "الأسد" و"القذافي" مثلاً فهل انتهت نظرية الديمقراطية وحق الشعوب في الحياة، وعن ماذا يدافع المتطرفون عندما ينفذون تفجيرات إرهابية في مسرح أو حافلة داخل بريطانيا أو فرنسا، هل يدافعون عن قيم التسامح التي ينادي بها الإسلام الحقيقي أم أنهم يهددون العالم ويقايضونه بقاعدة أن إزالة الديكتاتوريات في الشرق الأوسط تعني مزيداً من الإرهاب.
كل ما سبق أسئلة كان يجب على من يتصدى ـدرامياًـ لمثل موضوع "داعش" أن يعالجها، لا أن يقدم دراما غلمان ونساء وحبوب "كبتاغون".
*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية