أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بحضور بقايا الأرحام وغياب المرحومين.. "عزيمة رمضان" تلجأ مع السوريين إلى لبنان

من مخيمات اللجوء السورية في لبنان - أرشيف

شريف، ماجد، غياث، حمزة، راحلون أصبحوا أكثر من أن تتسع لهم الأصابع العشرة المرتجفة للأم العجوز "أم هاشم"، وهي تحصي أجساد من التهمتهم المقابر قبل لجوئها إلى لبنان.

هو "تفقد" يومي تنجزه تلك المكلومة البائسة وهي تشرف على شهر كانت مائدته عند الإفطار تجمع كل أبنائها وأرحامها، "تفقد" يخنقها بنتيجته الظالمة عندما يعيد لحاضرها من غيّبه الموت عن شهر رمضان لهذا العام، فالأرحام أصبحوا "مراحيم".

تقول العجوز السبعينية النظام قتلهم واحدا تلو الآخر، حفيدها سامر يحاول أن يخفف من لوعتها وإخراجها من مرجل ذكرياتها الأليم الذي يغلي، ويغلي لينساب على هيئة بقايا موال يتدحرج على لسانها مرتعشاً مخنوقاً.. (قوليلي وين سكانك ياهالدار...) موال لم يكتمل مذ سكنت العجوز خيمتها في "عرسال". 

يقول حفيدها سامر، وكأن قاموس العجوز قد فرغ من كل مفردات العالم وتجمد عند هذا السؤال العصي عن أي إجابة أورد، فلا الدار بقيت ديارا ولا سكانها سيرجعهم الموت ليخلصوا العجوز أم هاشم من مرارة سؤالها وحرقته.

سامر "متورط" بجمع شمل من بقي من العائلة بمناسبة حلول شهر رمضان، الجدة أم هاشم و(سيدة) المدعوين على قلتهم، لبت دعوته بكل ما اختزنت في روحها وعقلها من ذكريات..ذكريات يدرك سامر كم عليه أن يكابد لإخمادها ولو لساعات في رأس العجوز المسكينة.

إنه التورط بالذكريات، التي ستعود لتتقد من اجتماع هذا الحشد المكلوم من عائلتي وأهلي.

*عزيمة رمضان
يقول الحفيد "سامر" إن "عزيمة رمضان" هي تقليد اجتماعي وعائلي ثابت في ذاكرتنا نحن كسوريين، حيث تعمل كل العوائل السورية قبيل دخول شهر رمضان بأيام لدعوة جميع الأبناء والبنات والعمات والخالات وأولادهم ليجتمعوا في بيت الأب والأم

وتناول طعام العزيمة الرمضانية برفقتهم والمباركة لهم بحلول شهر الصيام والبركة.

عزيمة تجمع كل أفراد العائلة فيتصالح المتخاصمون إن وجدوا وتتصافى القلوب إن كانت قد عكرتها أحقاد الخصام و"الزعل" والجفاء.

وأنا أحاول، يضيف سامر، برغم ظروف اللجوء القاسية أن أحافظ كغيري من اللاجئين من أبناء وطني هنا في مخيمات اللجوء على هذا التراث السوري الجميل

وأن أجمع من تبقى من أخواتي وعماتي وخالاتي على مائدة واحدة، فصلة الرحم هي من أهم ما تربينا ونشأنا عليه ليس في شهر رمضان فحسب، بل طيلة أيام السنة، وإن كانت في هذا الشهر الفضيل تزداد ظهورا ووضوحا بشكل أكبر.

سامر كغيره من مئات آلاف السوريين الذين قذفتهم الحرب إلى لبنان (يولم) لأرحامه قبيل حلول الشهر الفضيل، وهو مدرك تماماً أن عليه أن يكون مستعدا وجاهزا لحضور "فصل بكاء" مرير حول تلك المائدة التي غاب عنها معظم إخوته وأرحامه. مائدة ستشهد عشرات الأماكن الفارغة من أصحابها في شهر رمضان هذا العام ايضا، لكنهم رغم غيابهم سيحضرون.

فهم كما يقول سامر لن يشاركونا تناول طعام عزيمة رمضان، ولن نتمكن كذلك من عناق بعضنا البعض وتبادل كلمات الاشتياق والحنين، لكنهم حتما لن يبخلوا علينا بأن يشاهدوا كم هي محبتهم كبيرة، وكم أن غيابهم موجع ومؤلم في دموع كل من يتحلق حول مائدتي الرمضانية، وهم يستمعون لنصف موال العتابا المتدحرج عن لسان الجدة أم هاشم "قوليلي وين سكانك ياهالدار"
*بين مدفعين
بين (مدفع الأسد) الذي هجرهم وقتلهم و(مدفع رمضان) الذي يكاد أن يحل عليهم بعد أيام، يحاول اللاجئون في لبنان جمع من تبقى من أرحامهم حول مائدة لن يحضرها شريف، ماجد، ، غياث، حمزة .. وغيرهم من مئات الآلاف من السوريين الذين غيبت أجسادهم براميل الأسد وغربانه الذين يقودون طائرات الموت.
مائدة ستهيج الذكرى التي ما غابت عن قلوبهم يوماً..
مائدة كأن لسان حالها يخاطب ممن تجمع من حولها:
"ويح الغريب. . أما تكفيه غربته
حتى تجرحه الذكرى وتكويه
الله في (نازح) أودى الحنين به
لولا بصيص رجاء في لياليه
أكلما شام من واديه بارقة
هنا. .وصفق تحنانا لواديه".

عبد الحفيظ الحولاني - زمان الوصل
(109)    هل أعجبتك المقالة (127)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي