كثيرا ما يوضع البحر في الواجهة، ليصنف ضمن لائحة أكبر "قتلة" السوريين، لكن الحقيقة أن البحر لم يكن يوما سوى أداة في يد "قاتل" معلن، أو آخر متخف يمارس شهوة استهتاره بالأرواح تحت ستار القانون.. هذا على الأقل ما كشفت عن تسجيلات صوتية تخص كارثة انقلاب قارب كبير كان يقل 480 روحاً، قضى أكثر من نصفهم نتيجة تخاذل حرس السواحل الإيطالي وتهاونه.
فقد أماطت صحيفة "إسبريسو" الإيطالية اللثام عن تسجيلات رسمية تشكل وصمة عار على جبين الإنسانية، وعلى جبين إيطاليا بالذات، التي صمّ مسؤلو خفر السواحل فيها آذانهم عن سماع نداءات الاستغاثة المتكررة وصراخ أطفال ونساء كانوا يستنجدون بأشخاص فقدوا أدنى حس من الرحمة والتعاطف.
ففي 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2013 كان قارب كبير محمل بمئات اللاجئين السوريين (انطلق من ليبيا) يواجه تلاطم الأمواج في عرض البحر المتوسط، بعيدا عن جزيرة "لامبيدوزا" الإيطالية نحو 60 ميلا بحريا، ونحو 120 ميلا عن سواحل مالطا.
تولى طبيب سوري يدعى "مهند جمو" بحكم معرفته للإنجليزية نقل استغاثات اللاجئين العالقين وسط خضم رهيب من الأمواج، مكررا رجاءه لخفر السواحل الإيطالي بأن ينقذهم قبل فوات الأوان، لكن الإيطاليين الذين كانت أقرب سفنهم على بعد ساعة ونصف من القارب، بقوا يماطلون 5 ساعات حتى غرق القارب بمن فيه، وبعدها حضروا ليمارسوا دور "المنقذ" لمن قتلوهم!

ورغم أن "جمو" حدد لمسؤولي خفر السواحل الإيطالي موقع القارب، وأعطاهم إحداثياته بدقة، إلا أن جواب هؤلاء كان دوماً مزيدا من التقاعس والتخاذل، حتى وصل بهم الأمر إلى أن يخادعوا "جمو" ويطلبوا منها مهاتفة خفر السواحل المالطي لأنه قرب مالطا، لكنه اتصل بالمالطيين الذين قالوا لها إنك أقرب إلى إيطاليا.
وعاد "جمو" ليخبر الإيطاليين بما قال له المالطيون، ويناشد الموظفة: "نحن نموت"، لترد عليه بكل برود: "اتصل بمالطا.. اتصل بمالطا"، وكأنها تقول له فعلياً: لا تعاود الاتصال بنا، ومت كيفما شئت.
والحقيقة أن القارب كان أقرب إلى إيطاليا بنحو مرتين (مقارنة بمالطا) كما كانت هناك سفينة حربية إيطالية لا تبعد إلا نحو 19 ميلا عن القارب، ومن هنا كان على الإيطاليين أن يسارعوا لإنقاذ المهددين بالغرق، التزاما بالضمير الإنساني وبالقانون البحري الدولي، ولكن الإيطاليين تعاملوا مع هذه الالتزامات بطريقة مريعة.

ففي مكالمة مسربة بين موظف في البحرية الإيطالية ونظيرته في البحرية المالطية، تخبره الأخيرة بأن لدى الإيطاليين سفينة قريبة من القارب الموشك على الغرق، وأن أقرب سفينة مالطية تبعد 70 ميلا عن القارب، مقترحة عليه أن يعطوا الأوامر للسفينة الحربية الإيطالية كي تتجه لإنقاذ الناس، لكن الموظف يقول إن بقاء تلك السفينة في موقعها (عدم تحركها) أمر ضروري لإنجاز المهمات الموكلة إليها! (مكالمة في الساعة 16.44).
وفي مكالمة لاحقة (بعد نصف ساعة تقريبا) بين السلطات البحرية الإيطالية ونظيرتها المالطية، تخبر الموظفة المالطية نظيرها أن القارب غرق وأن ركابه أصبحوا في الماء، فيجيبها الموظف الإيطالي ببرود أعصاب لا يمت لعالم الإنسانية بصلة: "أوكي، إنه نفس القارب"، متعهدا أخيرا بإرسال سفينتهم القريبة من القارب الغارق.
التقرير الذي نشرته "إسبريسو" أرفق بمقاطع مسجلة حقيقية تثير رهبة كبيرة في النفوس، حيث يعيش المشاهد لحظات غرق الناس ومكافحتهم للبقاء على قيد الحياة، وهي لقطات وثقتها مروحية كانت تطوف فوق المكان، في مشهد شديد الكآبة يرصد غياب الشمس وغياب أرواح 268 لاجئا سورياً بينهم 60 طفلا.
وسبق لـ"زمان الوصل" قبل نحو 4 سنوات أن واكبت خبر المجزرة البحرية بتقرير مفصل، عرضت فيها أسماء وصورا للضحايا، الذين قضوا في كارثة تعد الأسوأ في سجل الحوادث البحرية خلال السنوات الأخيرة (للاستزادة
زمان الوصل - خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية