أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سر الخيمة رقم (6).. خرساء وأعمى وثلاث أمنيات

وليد ومها... خيمة صامتة.. على قارعة الألم - زمان الوصل

الخيمة رقم 6 خيمة ربما تشبه في تفاصيلها آلاف الخيام السورية الممتدة على طول جرود بلدة "عرسال" اللبنانية، خيمة تشرق عليها الشمس صباحاً ويهاجمها الشوق والحنين مساء مع كل هبة نسيم أو موال عتابا يتسلسل سهوا من داخل أروقة خيمة العجوز "أم زهير" ذات الشهداء الستة، خيمة ستشبه تلك الخيام بكل تفاصليها ما عدا تفصيل بسيط، تفصيل يسمى "وليد" وقد يسمى "مها".

"وليد" وزوجته "مها" قصة قهر بنكهة الملح، ملح لن تجد له شبيها ولن تعرف له مثيلا بمرارة طعمه وبشاعة مذاقه إلا في مواويل تلك العجوز النائحة على من شيعتهم من ذويها.

أوفي تلك الدمعتين اللتين تعجلان زحفهما ساعة الفجر عبر تجاعيد خطها التشرد والغربة بقسوة ووحشية على خدي الخمسيني وليد وهو يتحسس الخواء والصمت المخيف داخل خيمته، حيث لا صوت ولا صدى يؤنس فضاء حياته الموحشة. 

وربما تلقاه أيضا فيما تذرفه عينا الزوجة "مها" وهي تحاول أن تحرك لسانها الأخرس المشلول لتبث شيئا مما تعانيه من ألم شديد في المفاصل لزوجها الكفيف فتعود خائبة صامتة. 

الفقر والحاجة هما من دفعا بوليد اللاجئ من ريف حمص الجنوبي ذلك الصيف من العام 2014 ليتوجه مع عمال الفاعل والمياومين إلى حقول الكرز على تخوم بلدة "عرسال". 

لم يهدف وليد من عمله في قطاف الكرز سوى تأمين جزء من تكلفة العلاج لزوجته المعتلة المفاصل (الخرساء)، وربما تمادى في طموحاته كما يقول بمحاولة تأمين التكاليف المترتبة لزيارة (طبيبة نسائية) تساعده وزوجته على إنجاب طفل، وهما اللذان لم يرزقا بأي طفل منذ زواجهما في العام 2011.

كان الأجر وليد الذي سيتقاضاه يومها من قطافه للكرز خمسة دولارات، غير أن خسارته كانت أكثر بكثير، لقد قطفت شظية عينه اليمنى التي رحلت قبل أن يكمل قطاف صندوق كرزه الأخير.

شظية باغتته فجأة من طائرة ألقت بذخيرتها داخل حقل الكرز لتضيف لوليد ألماً جديداً وهمآ ثقيلاً بدا أنه سيلازمه طويلا في مشفى "الرحمة" بمدينة زحلة.

بعد سبعة أشهر من العلاج تخرج وليد بعين واحدة، فعينه اليمنى بحسب طبيبه المعالج قد فقدت البصر تماما بسبب تلف الشبكية، ووضعه الطبيب وهو يودعه إلى خارج المشفى امام خيارين أحلاهما (ملح)، فإما أن يقوم وليد بعملية زراعة شبكية تعويضية أو أن ينتظر فقدان البصر بعينه اليسرى لاحقا والتي ستتأثر سلبا من جراء العطب الذي طال العين اليمنى.

ثنائية الصمت والظلام اجتمعت تحت سقف خيمة واحدة، وليد الذي يزداد فقده للبصر شيئا فشيئا حتى كاد يقارب درجات العمى لاستحالة قدرته على الخضوع لعملية زراعة الشبكية باهظة الكلفة، ومها الخرساء التي تزداد مفاصلها اعتلالا وتدهورا بسبب نقص الرعاية الصحية وغياب الدواء.

خيمة لم يكتب لساكنيها أن يرزقوا بنعمة الأطفال ونعمة البصر ونعمة النطق والسمع، فكيف لشبه "كفيف" أن يتواصل مع زوجة بكماء صماء. 

وكيف لزوجه كل ما تملكه هو لغة الإشارة أن تتواصل مع زوج بدأ بصره يدخل فصله الأخير.

مها تعبر بيديها عن حلمها بأن يحافظ وليد على ما تبقى من النسبة الضئيلة المتبقية في عينه اليسرى، أما أحلام وليد فتوقفت عند معجزة إلهية تحرك لسان زوجته يوماً لتصبح قادرة على محادثته وهو يخوض في ظلمته الأبدية، وكلاهما يتفقان على حلم ربما كان أطهر ما يتمنيان، طفل يحبو بين خرساء وأعمى يكون لساناً لمها وعينا لوليد وسنداً لأبوين رمتهما الغربة والفقر داخل خيمة باردة ميتة كان اسمها الخيمة رقم (6).

عبد الحفيظ الحولاني - زمان الوصل
(105)    هل أعجبتك المقالة (106)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي