من صندوقها الأسود الذي أخفته بعيداً، هناك على الميسرة من قلب قد تفطر لفقد ولدين وزوج على عتبات حي "الخالدية" الحمصي، تخرج اللاجئة الخمسينية "أم محمود" تفاصيلها الحميمية الدافئة التي تصفها بالشهيق الذي يربطها بحيها المنكوب الذي هجرت عنه من قبل ميلشيات النظام في العام 2012.
تفاصيل العجوز "أم محمود" التي تركت خلفها ثلاثة قبور ومنزلا مكونا من خمس غرف تحولت لأنقاض لا تشغل حيزاً كبيراً وسط هذه الخيام الممتدة من الجرح إلى الجرح، لكنها أشبه بخيوط حرير تربطها بأربع أيقونات مازالت تزين بها روحها إلى الآن، أيقونات هي الأغلى والأطهر والأحن على طول سجل حياتها الخمسيني الذي كانت آخر محطاته خيمة لا شيئ فيها غير الذكريات والتفاصيل الدافئة التي أخفتها داخل صندوقها الأسود كما تقول.
فقيدها محمود، وهو الابن البكر، كان يحب أن يفطر الفول، يومها أحضروه لها بعد إصابته برأسه بطلقة قناص وهو يهم بالعودة من المطعم الكائن في الشارع المجاور، وجدت في جيبه بضع قطع نقدية معدنية من فئة الخمس ليرات سورية، ربما كانت البقية الباقية من سعر صحن الفول الذي رده له البائع في ذلك الصباح التشريني الأخير من صباحات محمود.
فكان من نصيب "الرصيف" أن يفطر فولا مغمساً بالدماء بدلا عن محمود الذي قضى قبل أن يحقق حلمه بتذوق طعم (الفول والحرية) معاً.
قطع معدنية من النقد السوري رابطة لازالت توثقها وتشدها بقوة كل صباح إلى شهيدها محمود.
ولو فتشت في صندوقها الأسود بروية أكثر ستجد بدلة عرس ولدها "وائل"، هو لم يلبسها أصلاً، كان الكفن أسرع في الوصول لجسده الذي باغتته قذيفة دبابة عندما كان عائدا من عمله في (صب البيتون)، كاد أن يكمل مهره إلا قليلا، لكن القدر حول وجهته في اللحظات الأخيرة من بيت الزوجية الذي كان يطمح بدخوله إلى مقبرة تل النصر جثة متشظية مشوهة المعالم.
زوجها أبو محمود الذي فقد جزءا من بصره جراء حزنه على ولديه لم يمتلك من وسائل التعبير عن حبه وشوقه لهما غير قراءة القرآن من وراء عدستين سميكتين داخل نظارة سوداء اللون، نظارة ربما رفضت أن تسقط عن وجهه عندما فاجأته الجلطة القلبية لتقطف منه آخر ما تبقى في روحه من حياة وهم يطوفون به شوارع الخالدية المحاصرة بحثاً عن طبيب لم يجدوه في الوقت المناسب.
قطع نقود معدنية، وبدلة عرس، ونظارة طبية سوداء ذات عدستين سميكتين، هذا هو عالم الخمسينية أم محمود الذي تفتح بواباته المطلة على الذكرى كل صباح.
تفتح صندوقها الأسود لتجلس مع ولديها وزوجها الراحلين، ولا تنسى أم محمود أن تُخرج قبل كل ذلك مفتاح منزلها ذي الغرف الخمس والذي تحول لأنقاص وبقايا أطلال يحاصرها الركام والجنود والدبابات، تعلقه على مسمار أمامها داخل الخيمة، تنظر فيه وهي تشعل مصابيح الذكرى والحنين.
مفتاح قد لا يصل بطوله ونوعه مفاتيح الأبواب الفلسطينية المحتلة، لكنه حتما يشبهها، هو كشاهد إثبات على حق العودة لوطن قد تحول كل ما فيه لأنقاض وركام و بقايا أبواب مخلعة مكسرة تنتظر عودة مفاتيحها وساكنيها.
عبد الحفيظ الحولاني - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية