أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

من جامعة حلب إلى سجن "تدمر"..طبيب "الزعتري" يروي لـ"زمان الوصل" مسيرة 10 سنوات في المعتقلات

الدكتور حسين السيبراني مع ناشطتين اغاثيتين في مخيم الزعتري

في إحدى عيادات "المركز الطبي السوري" في مخيم "الزعتري" يبدو الطبيب السوري "حسين السيبراني" منشغلاً بمعالجة مرضاه من الأطفال والنساء من اللاجئين وتقديم الأدوية والنصائح الطبية لهم بشكل يومي، وهو العمل الذي دأب على ممارسته، منذ سنوات بعد أن يقطع يومياً مسافة 100 كم جيئة وذهاباً ما بين مخيم "الزعتري" ومدينة "إربد" الأردنية حيث يقطن.

وبعمله الإنساني هذا يحاول الدكتور "السيبراني" أن يطوي ذكرى أكثر من 10 سنوات مريرة قضاها في سجون نظام الأسد متنقلاً ما بين سجني حلب المركزي وعدرا، وصولاً إلى سجن تدمر العسكري بعد اعتقاله حين كان يدرس الطب في جامعة حلب بتهمة ممارسة النشاط السياسي، وهي التهمة التي لم يكن يعادلها شيء بمفهوم نظام البعث. 

نشأ "السيبراني" ضمن أسرة فقيرة في مدينة "جاسم" بريف درعا، وتحمّل مسؤوليات الحياة مبكراً، حيث لم يكن قد تجاوز 13 من عمره حينما كان يعمل في الزراعة وأدت حياة الفقر والشقاء والكفاح التي عاشها في طفولته وشبابه إلى تكوين رأي سياسي بما يجري حوله.


ورغم حصوله على علامات جيدة في الثانوية، إلا أن فرص الابتعاث لإكمال الدراسة في الخارج كانت تذهب إلى أبناء ذوي النفوذ والحظوة لدى النظام، ولو كانت علاماتهم أقل منه، وهذا الأمر خلق لدى الشاب الحوراني بذور الاحتجاج.

ونشأ في داخله ما يشبه الوعي السياسي نتيجة الواقع المؤلم الذي يعيشه ويراه، وهو الأمر الذي دفع ثمنه أكثر من 10 سنوات في أقبية ومعتقلات النظام فيما بعد.

يقول "السبيراني" لـ"زمان الوصل" إنه التحق بكلية الطب في جامعة حلب عام 1981، وكان في في هذه المدينة آنذاك نشاط سياسي واضح، وهي الفترة التي أعقبت أحداث الإخوان ومدرسة المدفعية، وازداد هذا النشاط السياسي بعد عام 1985، وبالذات بعد ازدياد الأزمة الاقتصادية، وكان المقصف المركزي في جامعة حلب يعج بالنشاطات السياسية من توزيع المنشورات والخطابات حول الوضع السياسي في البلد، وكثير من الأحيان كان عناصر الأمن يقتحمون المقصف ويلاحقون الطلاب ومنهم "السيبراني"، الذي كان -كما يقول– يتوارى عن الأنظار ويهرب في الشوارع الفرعية المحيطة بالجامعة.

في أعوام 1986 و1987 اشتدت حملات الأمن على الناشطين، ما اضطر محدثنا -كما يقول- للتخفي، ولم يكن يداوم في الجامعة أو يزور أهله في درعا، واستمر هذا الحال لمدة عام كامل، وبسبب تعميم اسمه تم القبض عليه جانب الملعب البلدي بحلب، وجرى اقتياده إلى فرع الأمن السياسي في حلب.

ويتذكر "السيبراني" تلك اللحظات، وكأنه يستعرض شريطاً سينمائياً يمر أمام عينيه: "أثناء ركوبي في سيارة الأمن كنت أنظر إلى الشوارع والشجر والحارات والحدائق المألوفة لي وكأنني أودعها دون عودة".

وما إن وطأت قدم الطالب المعتقل أبواب الأمن السياسي حتى تلقى صفعة شديدة على وجهه من مساعد حلبي يُدعى أبو بكري، يقول: "أحسست بعد الصفعة بعدم التوازن وبدا عناصر الفرع وكأنهم أمسكوا صيداً ثميناً، فقد استمرت ملاحقتي لسنوات دون أن يفلحوا باعتقالي".

ويتابع محدثنا راوياً تفاصيل الليلة الأولى في فرع الأمن السياسي: "ما إن دخلت إلى الزنزانة حتى تم إخضاعي للتعذيب الشديد، وكانوا يسألوني أثناء التعذيب عن صلتي بحزب العمل الذي كنت صديقاً لأعضائه ولم أكن منتمياً له، وكنت أشارك معهم في الاحتجاجات والنشاطات التي يمارسونها". 

استمر تعذيب السيبراني في مكان اعتقاله الأول من الساعة 2 ظهراً حتى 12 ليلاً، حيث تم وضعه -كما يروي- على بساط الريح وهو عبارة عن آلة مثل جسم الإنسان، ولها مفاصل أسفل الظهر ولها حبل يربط القدمين ويشدهما إلى الرأس، وكان ألم هذا الحبل أشد من الضرب ذاته.

ويردف "السيبراني": "في اليوم التالي استرقت النظر فرأيت أن الفرع يمتلئ بطلاب الجامعة، وعرفت أن من بينهم أصدقاء لي، وفي ذلك اليوم واجهوني ببعض المنشورات التي أخذوها من بيتي ولكنني رفضت الاعتراف". 

مع الأيام بدأ الطالب المعتقل يتأقلم شيئاً فشيئاً مع المكان وراح يختلس النظر إلى الخارج ويحاول تمييز الأصوات ليكتشف أن هناك فتيات معتقلات من طالبات الجامعة ممن كن صديقات لحزب العمل، وكان -كما يروي- يسمع أصوات بكائهن وصراخهن أثناء التعذيب".


ويتابع السيبراني: "استمر التحقيق معي 12 يوماً وكان التعذيب يجري بشكل يومي ولكنه خفّ في اليومين الأخيرين، وفي اليوم الثالث عشر جمعوا المعتقلين كلهم في غرفة واحدة وبعض ممن لديهم خبرة في الاعتقال قالوا إنهم سيرحلوننا إلى السجن، وتم بالفعل ترحيلنا إلى سجن حلب المركزي منتصف تلك الليلة".

في سجن حلب المركزي أمضى "السيبراني" أربع سنوات ونصف وتعرض هناك إلى حلقات متكررة من الضغط النفسي، وكان السجانون –كما يقول- يغلقون أبواب السجن ويمنعون الزيارات"، مشيراً إلى أن أهله مُنعوا من رؤيته لسنة كاملة آنذاك، ولم يكن هناك تعذيب للمعتقلين، وكان المعتقل الذي يرتكب مخالفة يحوّل إلى فرع الأمن السياسي ليأكل نصيبه من الشتائم والتعذيب. 

في عام 1992 جرت عمليات مساومة للمعتقلين من قبل النظام، حيث عرض عليهم ورقة توقيع "ورقة عمالة" تقتضي أن يتعامل المعتقل معهم ويخبرهم بكل شيء للخروج من السجن، ووافق جزء كبير من المعتقلين على الورقة ووقعوها فتم إخراجهم وكان محدثنا -كما يؤكد– من بين من رفضوا التوقيع على الورقة فتم إبقاؤه في السجن. 

في نهاية العام 1993 تم نقل "السيبراني" إلى سجن عدرا، وبعد فترة تم عرض كل الموقوفين عرفياً هناك على القضاء وذلك بعد أزمة الخليج والضغوط التي مورست على النظام، وأثيرت قضية المعتقلين عرفياً على مختلف الأصعدة، وحينها عرض "السيبراني" على القضاء وتمت محاكمته "صورياً"، وتطوع وقتها عدد كبير من المحامين السوريين والعرب للدفاع عن المعتقلين، ولكن المحامين –كما يؤكد- قاطعوا المحكمة ونفذوا وقفات احتجاج لكون المحاكمات غير صحيحة أولاً، ولرفض النظام إعطاءهم صوراً عن ضبوط المعتقلين ثانياً، فحُوكموا دون محامي دفاع وتم الحكم عليه –كما يقول- بعشر سنوات كان قد أمضى ثماني سنوات منها ما بين سجني حلب المركزي وعدرا.

ويستعيد المعتقل السابق إحدى الطرائف التي كان شاهداً عليها في المحكمة التي كان يرأسها رئيس المحكمة "فايز النوري" وهي أن أحد الأشخاص ممن كانوا يُحاكمون في محكمة أمن الدولة حُكم عليه بناء على الحكم الصادر عام 1981 القاضي ببراءته بعد 9 سنوات من اعتقاله، أي في عام 1994 وأمضى بعدها سنة أخرى حتى رأى النور. 

وكانت التهم التي وُجّهت لـ"السيبراني" ورفاقه مشتركة، ومنها –كما يقول- معاداة أهداف الثورة والانتماء إلى جمعية تهدف إلى قلب نظام الحكم، وترويج الإشاعات الكاذبة، مضيفاً أن "بعض المعتقلين أُضيفت لهم تهمتا معاداة تطبيق النظام الاشتراكي ومعاداة أهداف ثورة الثامن من آذار اللتين كانتا كفيلتين بالحكم على المعتقل لمدة 15 سنة كما حصل مع الكثيرين" .

في عام 1995 شهد سجن عدرا مساومة بين النظام والمعتقلين على غرار مساومة سجن حلب المركزي، واقتضت هذه المساومة نشر المعتقل لبطاقة شكر لـ"حافظ الأسد" في الجريدة الرسمية.

وروى "السيبراني" أنه قال للجنة المساومة آنذاك:"على العكس نحن نطالب حافظ الأسد باعتذار على اعتقالنا كل هذه السنوات دون محاكمة أو سبب للاعتقال"، فتعرض للتعنيف قبل أن يطرد خارج الغرفة فوراً.

بعد أيام قليلة من هذه المساومة تم ترحيل "السبيراني" إلى المحطة الأخيرة في رحلة اعتقاله وهو سجن تدمر العسكري حيث اقتيد مع 18 معتقلاً إلى السجن الصحراوي يقول: "لدى دخولنا إلى سجن تدمر لم يتحدث أحد معنا وأخذوا بياناتنا".

والشيء الذي لفت انتباه "السيبراني" -كما يروي- هو إجبار المعتقل على خفض رأسه على الأرض مشيراً إلى أن المعارض المعروف "ياسين الحاج صالح" كان معه وبمجرد أن رفع رأسه آنذاك نال عقوبة على الفور من عناصر السجن.

بعد تسجيل بياناته والمعلومات المطلوبة عنه اقتيد "السيبراني" مع رفاقه إلى المهجع وهناك أمضوا الليلة الأولى دون تعذيب، وفي اليوم التالي سمعوا أصوات ضرب لم يألفوها بآلة غير معروفة.

ويروي محدثنا أن عناصر السجن فتحوا المهجع بعد لحظات وأخرجوا المعتقلين الجدد واحداً تلو الآخر عارين من الثياب إلا ما يستر العورة"، ويضيف قائلاً: "أدخلونا في الدولاب وبدؤوا يضربونا بآلة غريبة لم نستطع معرفتها وهي على الغالب مسطّحة وعريضة يكسوها الجلد القاسي والسميك.

وأكد محدثنا أنه رأى هذه الآلة ذات مرة من "شراقة" المهجع، وكان السجان الذي يقوم بالتعذيب يحملها بكلتي يديه لثقلها، مشيراً إلى أنها تُحدث ألماً شديدا أثناء التعذيب.

وكان السجانون -كما يؤكد السيبراني- يصطنعون الحجج ليضربوا بين 4 إلى 5 معتقلين يومياً دون ذنب أو سبب، أما الطعام فكان في منتهى الرداءة، وفي حال كان هذا الطعام دسماً يُعطى السجين 10 حبات زيتون، أما في باقي الأيام فكان الطعام عبارة عن برغل مطبوخ بالماء يضاف إليه "مرقة" حمراء وكان يُعطى لكل المهجع 10 حبات بطاطا أو باذنجان أو جزر.

بعد أن أمضى "السبيراني" سنتين ونصف داخل أسوار سجن تدمر تم الإفراج عنه، وأعيد مع عدد من رفاقه إلى فرع الأمن السياسي، حيث أمضى ليلتين هناك وحاول رئيس الفرع "عدنان محمود" أن يبدي مرونة في التعامل معهم، معتبراً أن "ما حصل قد حصل وعفى الله عما مضى"، وتم الإفراج عنه ليعود إلى مدينته "جاسم" وقد تغيرت ملامحه ورسمت تجربة السجن على محياه الكثير من خطوطها القاسية.

فارس الرفاعي - زمان الوصل
(138)    هل أعجبتك المقالة (168)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي