هناك مثل شائع في المنطقة مؤداه أن اللصوص لايمكن اكتشافهم غالبا وهم يسرقون، ولكن ذلك يصبح متاحا عندما يتصايحون ويتعاركون وهم يحاولون اقتسام المسروقات فيما بينهم.. وهذا المثل ينطبق إلى حد بعيد على قضية التعفيش في أحياء حلب الواقعة تحت سيطرة النظام.
فرغم أن تاريخ التعفيش -بمعناه الواسع والمنفلت من أي عقال- يعود إلى بدايات اندلاع المظاهرات ضد بشار الأسد ونظامه، أي إلى ما يقارب 5 سنوات، ورغم أنه أصاب مناطق واسعة من سوريا، فإن الضجة التي أثارتها قضية التعفيش الأخيرة في حلب وجدت أصداء غير مسبوقة، اكتنفتها عبارات حادة واتهامات مباشرة وألفاظ تخوينية بين مختلف الأطراف والأفراد الموالين للنظام.
ولعل أبرز من تدخل في الجدال الدائر حول قضية التعفيش، كانوا من مليشيا "حزب الله" وجمهورها، لاسيما بعد ما فتح "الشيعي" رضا الباشا الملف على مصراعيه، إلى درجة أزعجت الطرف الآخر، ودعت مرتزقا علويا معروفا مثل "إياد الحسين" لوصف الباشا بـ"الإيراني".
*في الميدان والقصير
وفي هذا السياق، كانت لافتة تلك المداخلة التي سجلها أحد قيادات "حزب الله"، مقرا في بداية كلامه أن كان يتجنب الحديث عن موضوع التعفيش باعتبار أن "الفقر كافر"، وهي العبارة التي يتذرع بها معظم من يمارسون التعفيش، ويتلاقى عندها كما يبدو جيش النظام والمليشيا التي تحاول أن تصبغ كل أفعالها بصبغة "التقوى" والتدين.
إذن، فقد كان "الفقر الكافر" هو السبب الذي منع قيادي المليشيا الصفراء من التطرق إلى موضوع التعفيش، لكن ما حصل في حلب كسر القاعدة لديه، وجعله ينطق بالوقائع والمشاهدات، لاسيما بعد أن تحول التعفيش إلى "تجارة مربحة"، وفق وصفه.
أقر القيادي المليشياوي بالحرف الواحد أن التعفيش ظهر "منذ بداية الأزمة في سوريا، وانتشر بشكل كبير خاصة من القوات الرديفة للجيش السوري التي كانت تطلق على نفسها اللجان الشعبية".
وقال القيادي الذي يتولى "مهام ميدانية" على الأرض السورية إنه عاين التعفيش لأول مرة في حي الميدان الدمشقي، ولاحقا في القصير (ريف حمص)، وكانت السرقات في بعض الأحيان لا تذر حتى "حنفية" (صنبور) الماء.
وحسب رواية القيادي فإن التعفيش انتقل بعد ذلك إلى حمص ثم تدمر "حيث انتشرت هذه الظاهرة بشكل فظيع فخلت البيوت من كل ما تحتويه"، حسب تعبيره.
ولم ينس القيادي المليشياوي أن يعبر عن أسفه لأن التعفيش الرهيب الذي تعرضت له تدمر بقي طي الكتمان ولم يتحدث عنه أحد، "لسبب ما زلت أجهله" كما قال.
وتابع مؤكدا أن وباء التعفيش انتشر كثيرا في حلب، و"مورست كل أنواع التشليح والتعفيش وخاصة طريق أثريا خناصر وطريق السلمية، وحاول الجيش (جيش النظام) في بعض الأحيان كبح هذا الأمر، إلا أن الواسطة "أنا من قوات..." كان يتم (تكفل) التغاضي عن كثير من هذه الأفعال".
وخلص قيادي "حزب الله" للاعتراف بأن بعض حوادث التعفيش تم الحديث عنها علناً، عطفا على الانتماءات المناطقية أو الفصائلية، لكن هناك حوادث أخرى بقيت طي الكتمان والتعميم.
وتحمل شهادة القيادي المليشياوي -على اختصارها- عدة نقاط مهمة، أولها الإقرار الصريح بتورط المليشيات التي شكلها النظام ومولها وسلحها، وثانيها تقادم عملية التعفيش، وثالثها اتساع مساحتها، ورابعها بروز ما يمكن تسميتها "التعفيش الشامل" أو الجائر، وهو التعفيش الذي لايبقي في المنطقة المستهدفة شيئا إلا نهبه، كما حصل في تدمر، التي تواترت الشهادات حول ما أصابها، لكن النظام كان وما يزال يحاول تغطية شمس الوقائع الدامغة بغرباله.
وإلى جانب هذا كله، فإن شهادة القيادي المليشياوي تعطي دليلا مؤكدا على التدخل المبكر لـ"حزب الله" إلى جانب النظام في قمع الشعب السوري، كما توثق اتساع نطاق هذا التدخل، وتدين في نفس الوقت أكثر من طرف، فهي تدين النظام ومرتزقته بشكل واضح، عندما تتحدث إما عن لصوص وإما عن مسهلي لصوصية كانوا يتغاضون عن المسروقات ويمررونها تحت ضغط الواسطة والمحسوبيات، كما يدين مليشيا حزب الله التي شاركت في تلك المعارك، ومنها معارك القصير ويبرود ودير عطية، ويدين
روسيا التي وضعت ثقلها في معركة تدمر لتحررها من "الإرهابيين" و"الدواعش" حسب ادعائها، دون أن تقر بأنها تسلمها لأسوأ أنواع اللصوص وقطاع الطرق عبر العصور.
وقد نالت مدينة تدمر نصيب "الأسد" من التعفيش، نظرا لما تحتويه المدينة من كنوز وآثار، ذهب "حيتان العفيشة" بالقسم الأكبر منها، وتركوا للعفيشة الصغار "فتات" البيوت والمحلات.
*"فرّغوا الانتصار"
من جهته، أدلى الإعلامي "حسن مرتضى" بدلوه في ملف التعفيش، مهاجما كل من يريدون الكشف عن هذا الملف والحديث به على الملأ، لأن ذلك "يفرّغ أهمية وعظمة الانتصار الأخير الذي حققه الجيش السوري مع حلفائه في حلب"، حسب قوله، مقرا في ذات الوقت بأنه يتلقى يوميا "مئات الشكاوى والأخبار والقصص العجيبة"، ولكنه يتحفظ على نشرها ويفضل مناقشتها مع "المعنيين".
ورأى "مرتضى" أن أفضل طريقة لمعالجة تلك القضايا هي في السر، بل وخلسة، قائلا: "عندما تريد أن تطالب بالإفراج عن أحد أقاربك أو أصدقائك لا تتحدث بالإعلام بل تذهب خلسة إلى فرع الأمن وتشرح الموضوع".
بالمقابل، انبرى "فارس شهابي" المتمول المعروف بمواقفه المتطرفة سواء في موالاة النظام أو معاداة الثورة، إلى الرد العنيف على أحد أبناء حلب، لأنه كتب تعليقا مستمدا من نفس تعليقات المؤيدين الذين يحذرون ممن يسمونه "دواعش الداخل".
فقد نشر "عبدالمجيد عقيل" ابن سفير النظام السابق في أوكرانيا، تعليقا مقتضبا قال فيه: "أنا سعيد جداً أن الجميع في سوريا أصبحوا يعرفون أن دواعش الداخل من اللصوص والعفيشة أخطر من دواعش الخارج. بقي أن نسمي الأمور بمسمياتها: إذا كان أبو بكر البغدادي زعيم دواعش الخارج، فمن هو زعيم دواعش الداخل؟".
وهنا ثارت ثائرة "شهابي" وكتب ردا حادا وجهه إلى السفير السابق، داعيا إياه إلى أن "يضب ابنه"، ويأمره بعدم الدفاع عن "أردوغان اللص الأكبر".
وتبنى "شهابي" نفس الرواية الرائجة في تبرير التعفيش، ودون أن يرف له جفن كتب قائلا، وفي نفس منشور الرد على "عقيل": "لولا لصوصية أردوغان ولصوصية زعران الفورة كان شعبنا بخير وبشغله وأرزاقه وما كان حدا عمفكر يسرق ليطعمي ولاده"، دون أن يخبر "شهابي" أحدا كيف له أن يميز بين ما سرقه "أردوغان" من حلب، حسب زعمه، وما سرقه هؤلاء "المساكين" الذين يحاولون فقط إطعام أولادهم، حسب قوله أيضا، ودون أن يخبر أيضا كيف لنا أن نصدق دعواه حول "المساكين" فيما كل الصور والشهادات تقول إنهم يسرقون ليتاجروا ويبنوا الثروات، وما مشهد سيارات جيش النظام وأفراده وهم يحلمون فوق ما تحلمه طاقتهم من مسروقات إلا مؤشر من ضمن المؤشرات، أضيفت عليه لاحقا شهادات الموالين أنفسهم عن "قبع" السيراميك وفك الصنابير وسحب أسلاك الكهرباء من الجدران و...، والتي لم تكن لتظهر للعلن لولا اختلاف كثير من المتورطين حول أحقية كل منهم بسحب "لحاف" التعفيش إلى ناحيته.
زمان الوصل - الجزء الثاني - خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية