أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

موسكو تبلور حلقات وصايتها على دمشق و"غازي كنعان" الروسي بات جاهزا

الروس متيقنون أن مقابل كل "كنعان" هناك "لحّود" جاهز

• رغم خطورة الخطوات الروسية فإن هناك موجة من اللامبالاة حيالها

• "موسكو بوتين" ورثت سياسة "اغمز إلى اليسار وانعطف لليمين" وطبقتها بحرفيتها

• سوريا مقطورة وراء قطار الكرملين، لكنها قاطرة تحولات تجري في روسيا حاليا


منذ أن تدخلت روسيا في سوريا بشكل مباشر خريف 2015، لم يتوقف الجدل بين فريقين رئيسين، الأول يرى تدخلها مرتبطا بالظروف الحالية، وبالتالي فإن وجودها مؤقت وحضورها عابر، بينما يؤكد الفريق الآخر أن الوجود الروسي سيكون في أضعف الاحتمالات طويل الأمد، هذا إن لم يتحول إلى احتلال فعلي.

وفيما تحاول موسكو –كلاميا- نفي أي نية للهيمنة على سوريا والوصاية عليها، تقوم –عمليا- بسلسلة من الخطوات التي تدعم نظرة الفريق الثاني، بل إنها تؤكد أكثر بأن الوجود طويل الأمد والوصاية الفعلية هما قراران تم الفراغ من اتخاذهما، ولم يعد أمام روسيا سوى بلورتهما تشريعيا وسياسيا وعسكريا.

وقبل الدخول في استعراض خطوات "بلورة" الوجود الروسي الدائم في سوريا، لابد لنا من التذكير بأن إعطاء إشارة الانعطاف (التغميز بمفهوم السائقين) نحو اليسار، مع الانعطاف حقيقة نحو اليمين، إنما هو سلوك شبه ثابت في السياسة السوفياتية، عماد السياسة الروسية الحالية وملهمها، وبمعنى أشد وضوحا فإن موسكو غالبا ما تنفي –كلاميا- ما تقوم به فعليا، لاسيما فيما يخص هذا الأمر بالذات؛ حيث تعتقد أن ذلك يساعدها بترسيخ صورتها السائدة في المنطقة العربية بالذات، بوصفها خارج قوى الاحتلال التاريخي، بعكس بلدان وإمبراطوريات أخرى.

*لا نفقات إضافية
فلندع إشارات الانعطاف إذن! ولنتتبع بالفعل إلى أين انعطفت موسكو وأين تتجه عمليا فيما يخص "وجودها" في سوريا، ولنبدأ من الخطوات "التشريعية" المفصلية التي لم يعد هناك أي شك أو جدال حولها، وأولها "شرعنة" الوجود الدائم لروسيا في سوريا، عبر تصديق مجلس النواب الروسي (الدوما) على ذلك بالإجماع، قبل 5 أيام فقط.

المثير للانتباه أن هذه الخطوة تزامنت مع تصريحات لنائب وزير الدفاع "نيكولاي بانكوف" تؤكد أن الوجود الدائم للقوات الروسية فوق الأراضي السورية "لن تترتب عليه أي نفقات إضافية"، وهذا كلام يستوجب التحليل والبحث فيما بين سطوره، إذ إن من المتعارف عليه أن أي عمليات لأي جيش في العالم خارج حدوده تستوجب تخصيص نفقات إضافية، أقلها من أجل تغطية "العلاوة" على بدلات ورواتب العسكريين، بحكم أنهم يعلمون خارج البلاد.. فهل كلام موسكو عن عدم ترتب "نفقات إضافية" يعني أن خدمة العسكري الروسي داخل سوريا، باتت تحسب وكأنها خدمة داخل الأراضي الروسية؟!، أم إن النظام تكفل بدفع نفقات "استضافة" الروس، بعدما قدم لهم الأرض والبحر والسماء، ومنحهم مزايا وحصانات تجعلهم بعيدين كل البعد عن أي مساءلة، بخصوص ما ارتكبوا أو سيرتكبون في سوريا؟.

وأبعد من ذلك، لم يخف الروس رغبتهم وتوقعهم (توقع كلمة مخففة لواقع مبرم) بأن يعقد "الدوما" جلسة له فوق الأراضي السورية، في غضون عدة أشهر، وربما تكون هذه الجلسة بمثابة الفصل "التشريعي" الأخير في كتاب الهيمنة والوصاية الروسية على سوريا.

لم ينتظر الروس طويلا لشرعنة وجودهم الدائم جوياً، فانتقلوا وبعد 3 أيام فقط من القرار الأول، إلى إعلان –من جانب واحد- بأن قاعدة طرطوس البحرية ستتحول إلى قاعدة دائمة للروس وأن "الدوما" سيصادق على هذا الأمر، وقد صدرت هذه التصريحات عن نائب وزير الدفاع "بانكوف" الذي يبدو أنه سيكون "المفوض السامي" لموسكو في سوريا، أو "غازي كنعان" الروسي، إذا ما جازت المقارنة بين "الوجودين" السوري في لبنان والروسي في سوريا (قد يكون هناك مقال مستقل بهذا الشأن لاحقا).

والمثير مرة أخرى في تصريحات "بانكوف"، وجميع تصريحاته الأخيرة مثيرة، قوله بملء الفم "ستكون لدينا في سوريا قاعدة عسكرية بحرية دائمة في طرطوس، وقد تم إعداد وثائق بهذا الشأن، ويتم التنسيق بشأنها حاليا بين مختلف الهيئات"، وتكفي هذه اللهجة القاطعة لتدلل على نظرة الروس إلى سوريا الحالية تحت قيادة بشار الأسد، وكيف تم تجاهل ذكر سوريا (قيادة، حكومة، مجلس شعب..) في تصريحات "بانكوف"، والاستعاضة عنها بعبارة "مختلف الهيئات"، وكأن قضية القاعدة البحرية على أهميتها شأن روسي داخلي، وما سوريا سوى محافظة أو إقليم ضمن الاتحاد الروسي.

*أمر مشين
وبنظرة أوسع للمشهد الروسي المتعلق بسوريا، فإن ضمان استدامة "الوجود" الروسي "تشريعيا" سبقتها ورافقتها خطوات "عسكرية" ذات أهمية بالغة، منها نشر منظومة "إس 300" قرب قاعدة طرطوس، و"إس 400" قرب قاعدة "حميميم"، واستجلاب مزيد من الطائرات الحربية والذخائر والأسلحة شديدة التدمير، فضلا عن الإتيان بحاملة الطائرات الروسية الوحيدة... إلخ، ما يعيدنا مجددا -وإن بشكل آخر- إلى تجربة "التدخل السوري" في لبنان، حيث كان حافظ الأسد حريصا على "تلازم المسارين"... ليس اللبناني والسوري كما كان يتردد، وإنما المسارين التشريعي والعسكري لتثبيت هذا "التدخل" وتحويله من مؤقت تحت غطاء "قوات الردع العربية" إلى دائم صبغته الوحيدة "جيش الأسد".. وهنا لا يبدو لدى الروس أي حرج في الاقتباس من تجربة "الأب" لتطبيقها على "الابن"، وكلهم يقين أن مقابل كل "كنعان" هناك "لحود" جاهز. [الرئيس اللبناني السابق إميل لحّود كان مضرب المثل في الخضوع لإملاءات نظام الأسد]. 

ورغم أن الخطوات الروسية الأخيرة فيها من الوضوح ما يغني عن تفسيرها وشرح أهدافها فإن هناك موجة من عدم الاكتراث تسود مختلف الأوساط والبلدان وعلى معظم المستويات، فلا النظام ولا "مؤسساته" معنيون بهذه الخطوات أو بمناقشتها، ولا المعارضة بمختلف أطيافها وتشكيلاتها متأهبة لمواجهتها بإجراءات عملية وفعالة، ولا الدول (الإقليمية منها بالذات) قلقة منها.

وإذا كانت لامبالاة النظام و"مؤسساته" متوقعة ومعلومة، فإن الأمر يبدو عصيا على الفهم فيما يخص المعارضة، والدول الإقليمية بالذات، اللهم إلا إذا كان الروس فعلا قد نجحوا -عبر تصعيد القصف الجنوني على حلب- في حرف الأنظار عن المسألة، وهو احتمال لايمكن استبعاده، لكن اتخاذه شماعة لتبرير غفلة أو تغافل الدول والهيئات أمر مشين في المحصلة.

*أمركة جيش بوتين
في التحضيرات الروسية ثمة خطوات كبيرة يصعب إخفاؤها، وهي بلا شك مهمة لفهم ما ينفذه الروس، لا ما يخططونه، كونهم فرغوا من مرحلة التخطيط.. ولكن بالمقابل هناك خطوات "صغيرة" ولا تحظى بنفس القدر من الاهتمام الإعلامي، ومنها إدخال تعديلات جوهرية على قانون الخدمة العسكرية في روسيا، يسمح بإبرام "عقود" مع العسكريين المتقاعدين والحاليين، من أجل إشراكهم في "عمليات مكافحة الإرهاب" خارج الحدود.

تبدو التعديلات مرتبطة بكل وضوح بوجود روسيا في سوريا ومعدة له، حيث أقرت في عز التدخل الروسي المغطى بمظلة "مكافحة الإرهاب".

اللافت في هذه التعديلات التي لم يلق الكثيرون لها بالاً، أنها تنطبق على من يصنفون ضمن "قوات الاحتياط" كما تنطبق على من يستعدون لأداء الخدمة الإلزامية، وبمعنى آخر فإن باب توقيع العقود الخاصة للخدمة "خارج روسيا" بات مفتوحا على مصراعيه، وهذا على الأغلب بسبب حاجة روسيا لتمديد وتنويع وتوسيع رقعة "وجودها" في سوريا.

ومن شأن هذه التعديلات الجوهرية أن تحول جيش روسيا إلى النموذج الأمريكي، حيث لايخفى مقدار اعتماد واشنطن على "المتعاقدين" والشركات الخاصة في عملياتها العسكرية والأمنية حول العالم، وهو ما تطمح روسيا لتحقيقه، محاولة استثمار خبرات وقدرات "قدامى المحاربين" وعدم هدرها بعد تقاعدهم.

فقبل بضعة أشهر تصاعد الحديث عن مساهمة "خاصة" في العمليات العسكرية الروسية على الأراضي السورية، عبر "مجموعة فاغنر"، مع التكهن بأن هذه المساهمة إنما تمهد الطريق لشرعنة الشركات العسكرية الخاصة، وهو ما حدث فعلا مع إدخال التعديلات الأخيرة على قانون الخدمة العسكرية.

وقبل هذه التعديلات كانت ممارسة النشاط العسكري مقتصرة على الأجهزة الحكومية، وكان القانون يعاقب أي جهة خاصة تنخرط بها، ويصنفها تحت بند "المرتزقة"، أما الآن وبفضل الشهية الروسية التي فتحتها سوريا، فقد تحول "المرتزقة" إلى "متعاقدين" و"خبراء".

ويبدو فتح الباب أمام إبرام العقود الخاصة مع الراغبين من الرجال والنساء الروس بالخدمة العسكرية خارج البلاد.. يبدو –من جهة أخرى- إنذارا بانخراط روسيا المتزايد في الساحة السورية، ورغبتها في تعزيز قوات البرية وتوسيع مهامها، بعد أن اقتصرت غالبية العمليات على سلاح الجو.

فحتى هذه اللحظة لا يزال عديد القوات البرية الروسية في سوريا محدودا، ونطاق عملها محصورا، وهو على الغالب بسبب الافتقاد إلى تشريعات روسية تخص تجنيد المرتزقة وزجهم في القتال تحت راية الاتحاد الروسي، بصفة "متعاقدين" وبحجة "مكافحة الإرهاب".

وللتذكير فقط، فإن الرائد الروسي المتقاعد "سيرغي تشوبوف" الذي أعلن عن مصرعه في سوريا خلال شباط/فبراير الماضي، كان يخدم بعقد "خاص" مع "مجموعة فاغنر"، وقد لقي حتفه "مرتزقا" بحكم القانون الروسي، قبل أن يتم تعديل هذا القانون مؤخرا.

وتذهب بعض التقديرات إلى أن عدد "المرتزقة" الذين تشغلهم "مجموعة فاغنر" في سوريا يصل إلى نحو 1500 عنصر، قتل منهم ملا يقل عن 100.

*ختاما
خلاصة كل ماسبق أن "سوريا الأسد" التي تبدو مجرد "مقطورة" وراء القطار الروسي، هي وللمفارقة "قاطرة" التحولات التشريعية والعسكرية وحتى السياسية التي يمر بها "الاتحاد الروسي" حاليا، تمهيدا لإنشاء نظام وصاية أو شبيه بالوصاية، يحول سوريا إلى محمية يصول فيها الدب الروسي ويجول، مدججا بـ: الامتيازات، الحصانات، الصلاحيات، وفوق كل ذلك مدججا بترسانة من السلاح، مما أُخفي منها وما أُعلن.

إيثار عبدالحق- نائب رئيس التحرير- زمان الوصل
(701)    هل أعجبتك المقالة (205)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي