تتوكأ اللاجئة السورية المسنة "أم حسن" على عصا خشبية وهي تجلس على طرف سريرها الخشبي الصغير في "دار الحنان" لرعاية المسنين المستحدثة في بلدة "عرسال" اللبنانية.
وتروي العجوز، التي قاربت 80 عاماً، لمن حولها بصوت متهدج أنهكته السنون عن ابنها البكر الذي تحبه، ولم تكن ترغب بمفارقته ولكنها أتت إلى هنا لأنها -كما تقول- لم تعد قادرة على الرؤية، وتمسح دموعها بمنديل في يدها قبل أن تخبرهم بأن يبلغوا ولدها بأن لا يغضب منها وأن يزورها كلما أُتيحت له الفرصة.
"أم حسن" هي واحدة من آلاف المسنين الذين هربوا من نار حرب لم تبق ولم تذر ولم ترحم شيخوختهم، ليجدوا أنفسهم في رمضاء النسيان والإهمال، وتعيش العجوز الهاربة مع ما تبقى من عمرها في الدار التي تم إنشاؤها مؤخراً في منطقة "شميس الزيتون".
وتقدم الدار لنزلائها من سوريين ولبنانيين خدمات الإقامة والطبابة وتستوعب حالياً 10 أسرّة، كما يؤكد مؤسسها الأخصائي الاجتماعي "عبد الحفيظ الحولاني" لـ"زمان الوصل"، مشيراً إلى أن الدار المجانية الأولى من نوعها أُسست بجهد فردي دون مساعدة أي جهة لبنانية أو سورية على الإطلاق.
وتحتوي الدار على كل ما يلزم الأم المسنة من غرفة صلاة ووسائل ترفيه وتلفاز وسرير وثلاجة وحمام ساخن طيلة اليوم.
وحول شروط قبول النزيلات في الدار أوضح محدثنا أن "الشرط الأهم أن تكون الأم مهملة إجتماعيآ وعائلياً لسبب ما ولا يوجد من يقدم لها الرعاية أو يهتم لتدبير حاجياتها، مشيراً إلى أن القائمين على الدار نظموا إضبارة لكل نزيلة على حدة تشمل وضعها الاجتماعي والصحي والعائلي، وتخضع النزيلة لزيارة دورية ويومية من قبل طبيب صحة عامة للاطمئنان على صحتها.
عمل "عبد الحفيظ الحولاني" خريج علم الاجتماع من جامعة دمشق عام 2000 كمرشد اجتماعي في مدارس حمص من عام 2001 وكان ضمن أول دفعة من المرشدين الاجتماعيين الذين تم تعيينهم من قبل وزارة التربية، وبعد لجوئه إلى لبنان، واصل "الحولاني" اهتمامه بتقديم المشورة الاجتماعية والنفسية للاجئين السوريين، وأسس معهد التنمية لرعاية الطفولة والأمومة الذي يُعنى بشريحة ذوي الاحتياجات الخاصة في بلدة "عرسال" اللبنانية.
ومن خلال زيارته للمخيمات والاحتكاك بالمجتمع المحلي في "عرسال" الشاب القادم من ريف حمص الجنوبي العديد من الأمهات المسنات مهملات ومنسيات ولا أحد يهتم بهن، إما بسبب وفاة الأولاد أو سفرهم أو حتى انشغالهم الدائم بأعمالهم اليومية، فكان قراره أن ينقذ هذه الشريحة المنسية ومن هنا -كما يقول- خطرت بذهنه فكرة تأسيس "دار المسنين" التي يقتصر نزلاؤها على النساء حالياً، لأنهن الشريحة الأكثر تأثراً بالحرب واللجوء.
ويعتمد "الحولاني" في الدار طريقة التداعي الحر مع المسنات وذلك بأن يجعل المسنّة تتكلم بأي موضوع يروق لها وبالطريقة التي تحب ويعمل مع فريقه للاستماع لها مع تحفيزها على متابعة السرد الحر لماضيها.
يقول "الحولاني": "نحاول أن لا نطلق أي قيمة سلبية على ماضي المسنة الذي تسرد جوانب منه، بل نعبّر عن دهشتنا وحبنا لذلك ونشعرها بعظمة هذا الماضي الذي تسوقه ونوحي برغبتنا الكبيرة لو كنا معها حينها".
ولفت مؤسس الدار إلى أنه يحاول أن يظهر جهله في الطبخ وخياطة الوسائد وطريقة تحضير المشروبات أمام نزيلاته ليجعلهن بمثابة مركز استشارة دائم في كل تفصيل من تفاصيل اليوم لدرجة أنهن -كما يؤكد- بدأن يدخلن المطبخ بطريقة تنافسية لإظهار من هي الأمهر في الطبخ أو نحوه"، مشيراً إلى أنه يجلس معهن بشكل جماعي.
ويتناول حديثاً إيجابياً ليشعرهن دائماً بالإيجابية والتفاؤل، ويحاول أن يشغلهن بعمل يدوي يفضلنه كصناعة الورود لتزيين الدار أو مشغولات القش أو غيرها من الفنون اليدوية.
ومن خلال جولاته في مخيمات "عرسال" رصد "الحولاني" العديد من الصعوبات النفسية والحياتية التي تواجه المسنين والمسنات ومنها –كما قال- حالة الاغتراب النفسي الكامل التي يعيشونها، فهم يعانون الملل والفراغ ووجود كثافة من الأطفال حولهم يسبب لهم توتراً دائماً بسبب الضجيج والصراخ.
ولفت محدثنا إلى أن ابتعاد المسنين عن أقرانهم هي المشكلة الأهم، فالمخيم لايوفر لهم فرصة اللقاء بسبب ضيق الخيمة وهم يعيشون في وحدة وتوتر دائمين.
ودعا "الحولاني" إلى ضرورة توفر نادٍ اجتماعي يجتمع فيه المسنون من اللاجئين السوريين بعيداً عن صخب المخيمات، بحيث يسمح لهم بلقاء من يحبون والقيام بما يرغبون من نشاطات ولو لجزء من النهار للحفاظ على توازنهم النفسي.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية