في أحضان الريف المصري وبين نجوعه التي تحاكي حياة الفطرة الأولى أتيح للمخرج السوري الشاب "أحمد فستق" أن يحقق حلمه بإنجاز فيلمه السينمائي الأول "تايه" الذي يرصد شخصية مواطن مصري بسيط يتجول في مناطق مختلفة من البلاد، ويُجبر على العيش في ظروف غير إنسانية، ويعمل في المدينة أملاً في تحسين ظروفه وإرسال المال لعائلته في القرية، إلا أنه لم يتمكن من تحقيق شيء خلال 11 عاماً من حياة التيه والضياع، ولم يجرؤ بالمقابل على العودة إلى الريف حيث ينتمي.
وشارك الفيلم بمسابقة العمل الأول ومسابقة الشريط التسجيلي في مهرجان "قرطاج" السينمائي في تونس 2015 ومن المقرر أن يُعرض في مهرجان هامبورغ السينمائي الدولي نهاية شهر أيلول/سبتمبر القادم في ألمانيا.

بدأ شغف "فستق" بالسينما منذ الطفولة، حيث اعتاد على مشاهدة الأفلام الكرتونية، وفي المرحلة الثانوية كان يهرب من المدرسة مع بعض أصدقائه، وذات يوم قرر أن ينزل إلى شارع "بارون"– حلب، حيث تتوزع العديد من دور السينما، وكانت أغلب الأفلام المقدمة فيها قديمة سواء أفلام سورية لبنانية أو افلام هندية وآسيوية أو أمريكية من الدرجة الثانية، وفي المرحلة الجامعية اعتاد "فستق" –كما يقول لـ"زمان الوصل" على ارتياد النادي السينمائي الذي كان يعرض أفلاماً سينمائية من مختلف الدول بشكل يومي.
ويضيف بأن شغفه بالسينما بدأ حينها يأخذ منحى أكبر من المشاهدة، ويتمثل بالبحث وراء الموضوع والغوص في تفاصيل الفيلم ومعرفة عمل كل شخص فيه.
لم يكن في سوريا آنذاك أكاديمية أو معهد فني لدراسة السينما، فقرر الشاب الحلبي أن ينتمي لمعهد الفنون المسرحية بدمشق ولكنه لم يلفح رغم محاولاته العدة، وكان يعتبر نفسه محظوظاً، لأنه لم يدخل المعهد لأن شغفه لم يرتبط بالتمثيل –كما يقول- بقدر ما ارتبط بسحر الشاشة الفضية وشخصية المخرج، وتكررت محاولاته لدراسة السينما في الخارج، لكن ظروفه المادية حالت دون ذلك، ومع ذلك بقي عاشقاً صامتاً للفن السابع.
في عام 2012 وبعد دخول المعارضة إلى مدينة حلب من جهة الريف أصبح التنقل من مكان إلى آخر شبه مستحيل بسبب المعارك الحاصلة قرب منطقة بيته لوجود الثكنة العسكرية المركزية في حلب، ولذلك شعر "فستق" -كما يقول- باحتمال أن يكون في أي لحظة ضمن طرف من الأطراف ويُجبر على حمل السلاح والقتال ... لكن قتال من؟

وهرب "أحمد فستق" من سوريا بعد ذلك لأنه فقد الأمل بأي هدوء يمكن أن يحصل خلال المدى المنظور ولاسيما أن الجنون -حسب وصفه- بدأ يغلف المكان، ويمّم شطر مصر لأنها البلد الوحيد الذي يمكن أن يحقق فيه حلمه بدراسة السينما وفعلاً قدم هناك أوراقه لمعهد السينما بالقاهرة والتحق طالباً فيه.
ولم يكن المخرج الشاب يملك كاميرا خاصة، ولكنه كان يستعير كاميرا من أحد أصدقاء دراسته ويقوم بالتجريب من خلالها، واستمر هذا الحال حتى السنة الثالثة التي يتوجب فيها إخراج فيلم وثائقي فكان فيلمه "تايه" أول فيلم له.
أثناء تواجد الشاب القادم من حلب في مصر سنوات 2012-2016 حدثت تغيرات كثيرة في مصر على جميع الأصعدة سياسياً، اقتصادياً اجتماعياً، وكانت هذه التغيرات –كما يقول– تؤثر عليه بقدر ما كان يؤثر عليه وضع سوريا المقلق يوماً بعد يوم إلى جانب تفاقم أزمة اللاجئين.
ولفت المخرج الشاب إلى أنه كان يفتقر في بداية الأمر لرؤية واضحة حول الفيلم الذي سيقوم بتنفيذه، ولكن المصادفة وضعته أمام شخص يمارس أعمالاً كثيرة ويسعى أن يكون ممثلاً وعلى الرغم من كثرة محاولاته، وكان هذا الشخص -حسب محدثنا- من قرية بعيدة عن القاهرة وسبق أن تزوج مرتين وطلق بالرغم من أن لديه أطفالاً من كلا الزوجتين". وتناقش المخرج الشاب مع صديقه في صنع فيلم يكون هو فيه الشخصية الرئيسية فأبدى موافقته واستعداده للتعاون.
لم تكن ظروف صنع فيلم "تايه" سهلة -كما يؤكد-مخرجه وذلك لأن أغلب أجزائه كانت تصّور في أماكن خارجية ودون تصاريح أمنية للتصوير، وكان مع فريق الفيلم يتحركون–كما يقول–بحثاً عن الأماكن التي تصلح للتصوير ومنها "كفر الشيخ, شبرا, الجيزة,والقناطر وغيرها من الأماكن".
تبلغ مدة الفيلم 64 دقيقة، ولذلك يُعتبر من الأفلام الروائية الطويلة نسبياً، إلا أنه يحتوي أيضاً على جانب تسجيلي، وخلق هذا الأمر–حسب فستق- جدلاً كبيراً أثناء عرضه على لجنة تحكيم المشاريع بين رافض للفيلم ومعجب به، لما احتواه بحسب البعض من جرأة في الطرح".
وأوضح المخرج "أحمد فستق" أن ما دفعه لهذه المغامرة في تنفيذ هذا الفيلم هي التساؤلات المبنية من رصد الواقع والمتغيرات الحاصلة بكثرتها في وقت قصير ولو أمعنا النظر سندرك –كما يقول- أن شيئاً لم يتغير بل على العكس ساءت الأمور أكثر في كل الاتجاهات.
وتميز فيلم "تايه" بإيقاعه البطيء واللقطات الطويلة الثابتة الجامدة في كثير من أجزائه، وحول تفسيره لاختيار هذا الإيقاع السينمائي وهل له علاقة بظروف تصوير الفيلم شبه السرية أوضح مخرجه أن "أسلوب وإيقاع الفيلم مرتبطان حتماً بماهية الموضوع وطريقة تقديمه من خلال عناصر السينما كافة"، ولم ينوِ -كما يقول- تقديم فيلم بمنظور خفي أقرب للتجسس بل أراد -كما يؤكد- تحقيق مساحات واسعة ومفتوحة وحرية كبيرة ضمن إطار الصورة وحالة رصد طبيعية وواقعية".
وحول ابتعاد فكرة الفيلم عما يجري في سوريا على عكس ما هو متوقع من مخرج شاب خارج من أتون الحرب، أشار "فستق" إلى أن شخصية فيلمه لم تتقوقع في دائرة المحلية وذلك لكثرة الروابط المكونة لصفات الشخصية العربية وتحديداً في هذا الوقت"، لافتاً إلى أن "حالة البحث واللاجدوى والمشاعر الفردية متقاسمة في الشخصية العربية سواء في سوريا أو مصر حتى في بلاد عربية أخرى".
وتابع محدثنا: "كثيرون من الذين غادروا أماكنهم بسبب الحرب أو لأسباب أخرى يتقاسمون مع شخصية "تايه" ما هم فيه".
واستدرك قائلاً: "تلك الحقيقة المؤلمة التي خلقت من المكان الذي ننتمي إليه أزمة نعيشها ويعيشها اليوم ملايين من الناس سواء سبب ذلك بفعل الحرب أو المتغيرات السلبية الحاصلة في واقعنا".
وانتهى المخرج "أحمد فستق" منذ فترة قصيرة من إخراج مشروع تخرجه من المعهد العالي للسينما الذي حمل عنوان "فوق" وهو يتحدث –كما يقول- عن أزمة شاب سوري يصل إلى مصر هرباً من الحرب ويتسلل إلى أحد أسطح المباني طلبا لمكان يؤويه، إلا أنه يمر بتجربة يختلط فيها الواقع بالخيال فوق ذلك السطح، الأمر الذي يجعله يغادر المكان تاركاً أثراً لوجوده.
فارس الرفاعي -زمان الوصل
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية