ليس لباب خيمتهما قفل ولا سلاسل ولا أصفاد، غير أنه مقفل حتى إشعار آخر، ربما إلى ذلك الزمن الذي يصيح فيه مؤذن المخيم: "انتقلت إلى رحمته تعالى ابنتكم اللاجئة السورية خيرات المصطفى وأختها إلهام من حي بابا عمرو الحمصي يرحمنا ويرحمكم الله".
لا تتمنى "أم علي" والدة البنتين أن تصل لتلك الساعة وتسمع هذه النعوة، نعوة الإفراج الأخير عن بنتيها، فهي كما تقول شهدتها من قبل وذاقت معنى أن يغادر أحد من أبنائها في رحلة الموت الباردة التي لا يعود المسافر منها.
"علي المصطفى" طفلها الوحيد "المكتمل عقلياً" من ذريتها والذي هربت به وأختيه المعاقتين إلى لبنان، راح ضحية رصاصات الجيش اللبناني أثناء هجومه على "عرسال" من صيف العام 2014، بعدما تمت تصفيته في مشفى "الأمل" من قبل ميليشيات طائفية.
قتل "علي" ومازالت جثته قيد الاعتقال من يومها، لم تتمكن حتى من دفنه، وزيارة قبره كأي أم ثكلى في هذا العالم.
"خيرات وإلهام" اللتان تجاوزتا سن العشرين ربما لم يبكيا أخاهما علي، ولم تشعرا حتى بغيابه، وهن المتخلفتين عقلياً نتيجة لضمور دماغي أصابهما ونوبات صرع رافقتهما منذ ولدتا كما تقول الأم، فخيرات تعرف جيداً كيف تمزق ثيابها كلما تعكر مزاجها من نوبات الصرع التي تنتابها، و"إلهام" الأقل عصبية كما تصفها الأم تعرف أيضا كيف تنزوي في زنزانتها "الخيمة" كلما باغتتها النوبات نفسها.
"خيرات" و"إلهام" غير قادرات على الكلام والتواصل أو ضبط تصرفاتهما والسيطرة عليها كباقي البنات، وليس للجسد حرمة في لحظة من اللحظات، فنوبة الصرع قادرة على أن تودي بكل ما يستر عفة البنتين وحرمة جسديهما المقدسة عندما تعصف بهما من دون سابق إنذار.
*نوائب الدهر
نوائب الدهر كما تقول الأم لم تتوقف عند هذا الحد، فآخر عنقودها الطفل "خير الله المصطفى" (12عاماً) مصاب بالمرض والداء ذاته، وإن كان يختلف عن أختيه في طريقة تعبيره عن معاناته مع مرضه العصبي المؤلم.
فهو لحظة وقوعه تحت نوبات الصرع يضرب رأسه بأي جدار يقابل رأسه الغضة، يضرب رأسه من دون وعي ولا رحمة حتى تسيل منه الدماء.
"أم أحمد" الجارة المقربة من "أم علي" تضيف بشأن والدة البنات التي تشكو من ألم في الظهر لشدة ما تعانيه مع أولادها فاقدي الوعي والتفكير، وتقول: أخطر المواقف التي تواجه أمهم تلك التي يدخل فيها أولادها في شجار مع بعضهم، لأننا نصبح غير قادرتين على حل النزاع بسهولة لما يتمتع به الأولاد من قوة وعدوانية وغضب، فهم يكسرون أي شيء يقع تحت أيديهم، أو يرمون به خارجاً.
تقول "أم علي" والدة المعاقين لـ"زمان الوصل" إنه لم يتوفر لأنبائها أي رعاية من أي جهة إنسانية، وتضيف ساخرة: "أسمع عن جهات تقوم بالدعم النفسي كثيرا غير أني لم أر أي ممثل عنهم، لم يهتم أحد بأولادي رغم مصاريفهم المرتفعة، هم بحاجة لمنظفات وثياب ودواء بشكل كبير، وبحاجة لرعاية نفسية خاصة، الخيمة غير قادرة على استيعاب 3 متخلفين عقليا ولديهم فرط نشاط".
وتضيف: "هذه حالات بحاجة لبناء خاص وجهات مختصة تشرف على علاجها وتدريبها ورعايتها لكن لا أحد يهتم بنا أو يكترث لحالتنا".
وعن مرض "الضمور الدماغي" أو كما يسمى "نقص الأكسجة" الذي يعاني منه "خير الله وخيرات وإلهام" يقول الطبيب "عبد المالك دياب" أخصائي الأمراض العصبية: "ضُمُورُ الدماغ أو ضمور المخ بالإنجليزية "Cerebral atrophy" هو من الملامح الموجودة في العديد من أمراض الدماغ وتحصل عندما تموت خلايا الأعصاب والخلايا التي تصل بينهم، و قد يكون الضمور عموميا أو بؤريا".
ويعدّ ضمور المّخ بحسب "دياب" من الأمراض التي تصيب الأعصاب، وهو عرض للكثير من الأمراض التي تؤثر بوظيفة الدّماغ الرئيسيّة، وضمور المّخ هو عبارة عن تلّف وفقدان في خلايا المخ ككل أو جزء منها مما يسبب قصورا وفقدان القيام بالعمليات الإرادية وعمليات التفكير والتركيز لدى الإنسان. مشيرا إلى أنه لا يوجد علاج مؤكد وفعلي لهذا المرض، بل يحتاج مريضه لرعاية خاصة ومتابعة دائمة .. وإشراف نفسي.
"أم علي" وبكلمات تنضح ألما، تقول: لبنان عرف كيف يكرم ضيوفه بأن قتل طفلها ويتابع بإهماله في قتل من تبقى من أولادها، فالموت هنا في هذا البلد الذي يدعى لبنان له نكهات متعددة، أولها أن تقتل برصاصة، وأقساها أن تموت ظلماً وقهراً بين من يفترض أنهم عرب مثلك.
نكهات أكثر من يتجرع مرها "خيرالله وخيرات وإلهام" مع كل مطلع شمس في هذه المخيمات المهملة، نكهة بطعم الضمور وأخرى بنكهة الصرع وثالثة بنكهة الإهمال ونقص الرعاية، وليس آخرها النكهة الأمرّ وهي قتل أخيهم الذي تشاركهم جثته مرارة الإقامة الجبرية في مكان ما من هذا البلد.."لبنان".
زمان الوصل TV (خاص – لبنان) تصوير: عبد الحفيظ الحولاني
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية