بين مقهى "الروضة" ومقهى "الفرح" في حمص مسافة مكانية لا تكاد تتعدى الأمتار الخمسين، ولكن في ثنايا وزوايا هذين المقهيين المتجاورين الكثير من الأحداث الهامة التي أسهمت في صنع تاريخ البلاد، من تشكيل الأحزاب والجمعيات والأندية السياسية ومعارضة الأنظمة التي حكمت سوريا وسط أجواء اختلط فيها دخان السجائر والنراجيل وصخب أصوات طاولات النرد والشطرنج بحمّى النقاشات والأفكار التي كانت تعكس نبض الشارع وتطلعاته.
عاصر مقهى "الفرح" الذي يعود تاريخ بنائه إلى أكثر من قرن من الزمن إلى عام 1900 تحديداً دخول الفرنسيين إلى حمص، ويذكر أن الجنرال "ديغول" عندما زار بلدية حمص وثكنة "الدبويا" ألقى خطاباً أمام واجهة المقهى.
وروى مدير المقهى الراحل الحاج "عبد الباسط طعمة" لكاتب هذه السطور قبل رحيله إنه شهد بنفسه خطاب "ديغول" عندما كان -أي طعمة- صغيراً في السن، مضيفا أن إحدى المتظاهرات الحمصيات ضد الاحتلال الفرنسي وكانت تدعى "كوكب" وهي بائعة مقشات رأت "ديغول" يخطب أمام المقهى فعنّفته قائلةً له: "لعن الله حكومتك يا ديغول". فابتسم لها دون أن يعرف ماذا تقول.
وكان لمقهى "الفرح" دور نضالي مشهود إبان الاحتلال الفرنسي لسوريا، ولا يزال كبار السن الأحياء ممن عاشوا تلك الأيام يتذكرون تلك الحادثة الشهيرة التي كان مسرحها مقهى "الفرح" في أوائل العشرينات عندما قررت الجمعية الخيرية الإسلامية في حمص إقامة مسرحية تمثيلية على مسرح مقهى "الفرح" يرصد ريعها للجمعية التي كانت تشرف على تربية الأيتام الذين حرمتهم الحربان العالمية والفرنسية من آبائهم، وأبدت السلطات الفرنسية اعتراضها في البداية، ثم مرّ القلم الأحمر للرقيب الفرنسي على كل عبارة تدعو أو تشير إلى الثورة.

وبعد أن جاء الوقت المحدد لعرض المسرحية، غصّ مقهى "الفرح" على رحابته بالناس وجاء المستشار والمحافظ ومدير الأمن واحتلوا أماكنهم في الطابق العلوي، وكان الترجمان إلى جانب المستشار يترجم له بعض الأقوال، والمقاطع التي مرّ عليها قلم الرقابة، ولم يشأ الممثلون حذفها تحدياً للسلطة، فثارت ثائرة المستشار وعند المنظر الذي يمثل فتح دمشق شاهد المستشار القادة الرومان يتقدمون منادين بطلب الأمان من أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، وبلغت الإثارة ذروتها عندما امتدت إصبع خالد بن الوليد الذي كان يمثل دوره الفنان والصحافي "تيسير ظبيان"، إلى المستشار وهو ينشد أبياتاً حذفتها الرقابة ولم يشأ الممثلون الانصياع إليها ومنها:
الشام تبكي والسواحل مثـلها
والكل يندب طالعاً منكوداً
لا تندبي يا شام حظك واعلمي
أنَّا سنبذل دونك المجهودا
أنَّا سنطرد بالجحافل والقنــا
صلاً تفيأ ظلك الممدودا
وهنا لم يستطع المستشار صبراً فوقف غاضباً ونادى بأعلى صوته وهو يرطن بالفرنسية قائلاً: "هذه ليست تمثيلية، بل دعوة صريحة إلى الثورة وستعرف السلطة كيف تؤدب الجميع".
ثم أوعز إلى رجال الشرطة وكانوا يملؤون صالة المقهى وهو يقول بصوت متهدج: أغلقوا المسرح والمقهى فوراً"، وذهب مع المحافظ غاضباً وعند الصباح غصّ السجن بمن قبضوا عليهم من المشاركين في العرض.
وعلى غرار مقهى "الفرح" تولى مقهى الروضة الذي بناه ابراهيم الأتاسي دوراً نضالياً وكان هذا المقهى في مطلع القرن العشرين ملتقى النخبة من المثقفين ورجال الفكر والسياسة.

وأشار المحامي والكاتب السياسي "أدوار حشوة" في مقال طريف بعنوان "حمص والمعارضة في نادي الأراكيل الديمقراطي !" إلى أن بذور المعارضة في مدينة ابن الوليد بدأت قبل أن يبدأ ما يُسمى الربيع العربي بسنوات طويلة ومن يعرف هذه المدينة وسلوكها سيكتشف أبعادا غير منظورة لواقع المعارضة التي انفجرت لاحقاً والمفارقة أن الناقد "حنا عبود" ابن مدينة حمص، وأثناء زيارة القائم بأعمال السفارة الأميركية في دمشق تشارلز هنتر إلى منزله عام 2010 ذكر كلاماً مجافياً للحقيقة والتاريخ عن نفسية الحمصي الذي "لا يعطي الأمور أحكاماً قطعية ويسمح للزمن بأن يحل أشد المشاكل صعوبة"، لذلك كما قال الناقد عبود فـ"حمص هي المدينة الوحيدة التي لم تعرف الثورات بل كانت تهزأ ممن يثور".
وعلى النقيض من ذلك يرى المحامي "حشوة" أن حمص لم تقبل الخنوع عبر تاريخها ومع أنها تبدو للآخرين بسيطة وطيعة إلا أنها في العمق تعرف طريقها إلى القيادة وتعرف كيف تقاوم وتختار الوسيلة المناسبة ولا تقفز على العقل.
وروى المحامي "أدوار حشوة" الذي ظل زبوناً دائماً لمقهى "الروضة" بقسميه الصيفي والشتوي لـ"زمان الوصل" إن المقهى المذكور شهد ظاهرة فريدة لم يشهدها غيره من المقاهي وهي في وجود المفكرين والأدباء في حلقات متعددة يتحاورون في غير صياح ويتبادلون المنشورات من تحت الطاولات، فإذا اقترب منهم مخبر يقلبون الحديث فوراً من السياسة إلى سعر البقدونس في سوق الحشيش أو عن نفقات المكدوس الحمصي في هذا الموسم!
وكان رواد هذا المقهى من أحزاب وحركات سياسية مختلفة ومن طوائف وأديان البلد ويمثلون لوناً من الاحتجاج السلمي على كثير من شؤون البلد ويتفقون على الديمقراطية ويختلفون في طرق الوصول إليها، ومهمتهم اليومية تحليل الأحداث على امتداد الوطن العربي وأحياناً العالم.

وفي هذا الـ"هايد بارك الحمصي" كان من المعتاد -كما يقول حشوة- أن يتبادل الرواد المهووسون بالسياسة والنقد نسخة من جريدة مخطوطة تُدعى "ابن الكلب" تشبهاً بجريدة "الكلب" السياسية الساخرة التي كان يخطها "صدقي اسماعيل" في دمشق وكانت تلك الجريدة الطريفة التي اتخذت شعاراً لها عبارة (من أجل الديمقراطية وضد الحرامية) تحفل بالآراء والانتقادات والأشعار الساخرة، وكان الشاعر الشعبي أبو رشيد محمد النحاس –كما يؤكد حشوة- ضيفاً دائماً على صفحاتها وقد تم اعتقاله في بداية الأحداث ولم يعرف مصيره إلى الآن.
ولأن مقهى "الروضة" في حمص كان مركز معارضة سياسية وحضارية، حاول "الحرامية" -حسب وصف حشوة- التخلص منه واتفقوا على بيعه لرجل الأعمال المعروف "عثمان العائدي" وضجّ أهل حمص واتحدوا ضد هذه الخطوة ووصلت شكاويهم إلى الأسد الأب، فأمر بإلغاء العقد وكتب على الشكوى الحمصية الموحدة (رئيس مجلس الوزراء إلغاء العقد حمص بلا روضه ما بصير).
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية