أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سقوط الإمبراطورية... أين بديلنا الحضاري؟... بلال حسن التل


في ذروة الهجوم الأمريكي الشامل على العالم عموماً، وعلى أمتنا على وجه الخصوص. هذا الهجوم الذي اتخذ أشكالاً مختلفة. ليس أكثرها خطراً الحرب الاقتصادية التي حاولت الولايات المتحدة الأمريكية من خلالها إحكام سيطرتها على اقتصاديات العالم وسلبها. وسرقة ثروات الشعوب، وخاصة مواردها الطبيعية وموادها الأولية مقابل أوراق خضراء، يؤكد كثير من خبراء الاقتصاد أنها أي هذه الأوراق الخضراء التي صارت أداة البيع والشراء الرئيسية في العالم لا تساوي أكثر من قيمة الورق والحبر الذي يستخدم في طباعتها. خاصة وأن الإدارة الأمريكية كانت تطبع منها كميات ضخمة لم تكن تملك ما يغطيها ويعطيها قيمة. في ظل المديونية العالية والمتزايدة التي كانت ترزح تحتها الموازنة العامة للولايات المتحدة الأمريكية. لكنه الصلف الأمريكي الذي يفرض على العالم حق القوة بدلاً من قوة الحق. وحق القوة هذا، هو الأساس الأول الذي قامت عليه أمريكا. فبالقوة طرد المغامرون القادمون عبر البحار سكان العالم الجديد. واغتصبوا بلادهم، واستولوا على كل شيء حتى فروات رؤوس أولئك السكان. ولذلك لم يكن غريباً أن تظل سياسة السطو والاحتلال والقتل أداة أساسية ورئيسية من أدوات تعامل الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع العالم. خاصة على الصعيد الاقتصادي حيث أبدعت الولايات المتحدة الأمريكية في ابتكار أساليب سرقة ثروات العالم بما في ذلك سرقة عقول أبناء الشعوب وكفاءاتها وتسخيرها لخدمة الاقتصاد الأمريكي، وصولاً إلى سرقة جهد عمال العالم. وهي الحقيقة التي أشار إليها شاهد من أهل البيت عندما افترض خبير اقتصادي أمريكي في حزيران من هذا العام أن حكومة بلاده أعطت كل مواطن من مواطنيها ستماية دولار. وتساءل كيف سيتصرف بها هذا المواطن؟ وقد وضع هذا الخبير وعلى ضوء معرفته بحقائق الواقع الأمريكي سلة من الإجابات. من بينها أنه إذا اشترى الأمريكي جهاز حاسوب فإنه بذلك يسطو على جهد عمال الهند، أما إذا اشترى ملابس فإنه يسطو على جهود عمال الصين، أما إذا ملأ ثلاجته بالفواكه والخضار فإنه يستغل المزارع المكسيكي. أما إذا اشترى سيارة فإنه يسرق جهود عمال اليابان وألمانيا. ويخلص الخبير الاقتصادي الأمريكي إلى أن الأمريكي لا يتقن في الحقيقة إلا المقامرة والسهر في علب الليل وشراء البودوايزر أي أنه غير منتج ويعيش عالة على جهد واقتصاديات الشعوب الأخرى.
وما بين سرقة ثروات العالم وجهود عباقرته وتعب عماله مارست الولايات المتحدة الأمريكية أساليب متنوعة للسطو الاقتصادي من بينها تجميد أموال الدول والأفراد المودعة في بنوكها تحت ذرائع وحجج مختلفة، لكنها جميعها واهية. وفي ظل هذا الجشع الأمريكي الذي فرض سطوته الاقتصادية على العالم. خاصة في فترة انفرادها بالسيطرة السياسية على العالم، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وتغول المؤسسات الاقتصادية العالمية وفي طليعتها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرهما من المؤسسات التي تدور في الفلك الأمريكي، والمفاهيم الاقتصادية الأمريكية، والتي لا هم لها إلا خدمة مصالح مجمع الصناعة العسكرية الأمريكية، زادت مساحات الفقر وعدد الفقراء في العالم. وزاد عدد المشردين واللقطاء. وانتشرت كل حالات الشذوذ التي تترافق مع الفقر. خاصة في ظل غياب الثقافة التي تحصن الإنسان أخلاقياً. وهي الثقافة التي تراجعت أمام سطوة الثقافة الأمريكة وسعيها إلى التفرد بالعالم. وإلغاء ثقافات الشعوب تحت ذريعة العولمة، التي هي في جوهرها محاولة لأمركة العالم ونشر الثقافة الأمريكية، والنموذج الأمريكي كسلوك ونمط حياة. والعارفون بحقيقة السلوك اليومي للأمريكي يعرفون حجم فوضويته ونهمه وقذارته حتى في طعامه الذي حاول أن يعممه على العالم عبر ثقافة الهمبورغر والهوت دوج وغيرها من الأطعمة التي صارت تعرف بالجنك فوود Junk Food التي صارت مصدر الكثير من الأمراض لشعوب العالم.
خلاصة القول أن العالم، وفي ظل هيمنة النموذج الأمريكي في السلوك، صار يدافع عن المثلية، وسادت فيه مفاهيم الاستبداد والعنصرية والاستعلاء، وتمددت ثقافة السطو والسلب والقتل. فمن أجل مبيعات سلاحها وتراكم أرباح مجمع صناعتها العسكرية، لم تتورع الولايات المتحدة الأمريكية عن إشعال الفتن المذهبية والطائفية والقلاقل الداخلية والحروب الأهلية. التي عانت منها الكثير من شعوب الأرض. وبذريعة محاربة الإرهاب مارست الولايات المتحدة الأمريكية أبشع أنواع الإرهاب. فالدولة التي قامت على سلخ فروات رؤوس الآدميين من سكان البلاد الأصليين، صار عدد ضحاياها من المدنيين في الدول التي ابتليت بغزوها العسكري كالعراق وأفغانستان يفوق بأضعاف عدد شهداء المقاومة في هذه الدول. مما يعني أن الذين يتقاعسون عن المقاومة لا يأمنون سلامتهم فالقنابل والصواريخ الأمريكية لا توفرهم. لذلك فإن من الأفضل لأبناء الشعوب المبتلاه بالغزاة وخاصة الأمريكيين والإسرائيليين فكلاهما وجهان لعملة من الأفضل لأبناء هذه الشعوب أن يهبوا لمقاومة الغزاة فيلقوا وجه الله شهداء خيراً من أن يلقوه على شعبة من شعب النفاق عندما يموتون مسالمين أذلاء.
في ذروة هذا الهجوم الأمريكي على العالم والذي صار البعض ينظر من خلاله إلى القرار الأمريكي كقدر لا يرد. وأن هذا العلو الأمريكي هو نهاية التاريخ. كنا نحن نكتب مبشرين بسقوط الإمبراطورية الأمريكية. وقد كتبت قبل سنوات عن سقوط الإمبراطورية الأمريكية، وكتبت عن سقوط إمبراطورية الكذب، وكتبت عن غرق الولايات المتحدة الأمريكية، وكتبت عن رهانات أمريكا الخاسرة وعن خسارة الذين راهنوا على أمريكا وسياساتها ومستقبلها. وها هي الأيام تؤكد خسارة الولايات المتحدة الأمريكية لكل رهاناتها وفي الطليعة منها رهاناتها العسكرية. فها هي تغرق في مستنقع العراق بعد أن راهنت على أن أبناء العراق سيستقبلون جنودها بالورد والرياحين وإذا بهم يواجهونهم بالحديد والنار دفاعاً عن شرف العراق. وها هي بوادر اعترافها بالهزيمة في أفغانستان تلوح في الأفق. عبر لهاثها المستميت في البحث عن قناة للحوار مع طالبان وبعد أن زعم قادة الإدارة الأمريكية أنهم حرروا أفغانستان منها أي طالبان ها هي طالبان أقوى مما كانت قبل الغزو الأمريكي الذي صار جنوده يفرون كالنعام أمام هجمات مقاتلي طالبان. أما الخسارة الأكبر فقد كانت لرهان أمريكا على إسرائيل في عدوانهاعلى لبنان في تموز 2006 ذلك العدوان الذي أرادت أمريكا أن تستولد من رحمه الشرق الأوسط الجديد، وفق المقاييس الأمريكية بعد أن يتم القضاء على المقاومة الإسلامية، فإذا الهزيمة تلحق بأمريكا وإسرائيل وحلفائهم مجتمعين. وإذا مشروع الشرق الأوسط الجديد يلد ميتاً. وإذا المقاومة تزداد بعد الحرب قوة. وإذا توازن الرعب بين المقاومة والعدو هو سيد الموقف. ولا يختلف الأمر كثيراً في فلسطين المحتلة حيث تتجسد أبشع صور العدوان الأمريكي على أمتنا، عبر دعمها الشامل وغير المحدود لإسرائيل. ومع ذلك فإن المقاومة هناك تزداد رغم تكالب الإسرائيليين والأمريكين والعرب العاربة عليها.
ومثلما خسرت الولايات المتحدة الأمريكية حروبها العسكرية المعلنة والمكشوفة فقد خسرت أيضاً حروبها الناعمة والسرية. وخاصة على صعيد المجتمع الأهلي في بلادنا. والذي تعرض لهجمة أمريكية شرسة. حاولت تزوير إرادته للتأثير على إرادة أبناء الأمة. ومن ثم تزويرها فمن أجل هذا الهدف أنفقت الولايات مئات ملايين الدنانير لتقيم في بلادنا مراكز أبحاث ودراسات. ولتصدر صحفاً ومجلات ولتطلق إذاعات وفضائيات. ولتزرع في وسائل الإعلام كتبة ومندوبين. ومع ذلك فإن صورتها زادت سوءاً في أذهان أبناء الأمة الذين زادت مشاعر العداء عندهم للسياسات الأمريكية. كما تدل على ذلك دراسات المراكز الأمريكية نفسها. وما ظنته أمريكا اختراقاً للمجتمع المدني والأهلي في بلادنا لم يزد عن كونه انخراط بعض ذوي الخلفيات الاجتماعية الساقطة في الطابور الأمريكي. ولم يكن هدف هؤلاء إلا الحصول على الأموال والبحث عن مكانة اجتماعية في محيطهم. لكنهم بالتأكيد أعجز من تحقيق أجندات سيدهم الأمريكي الذي خسر كل رهاناته العسكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
وتزامناً مع خسارة الولايات المتحدة لكل رهاناتها وخاصة في منطقتنا فقد خسر كل الذين راهنوا على الولايات المتحدة الأمريكية لحل قضية فلسطين وتحقيق السلام في المنطقة فها هي الأمور في فلسطين تزاداد سوءاً. والعدو الصهيوني يزداد غطرسةً وعدوانية، والسلام أبعد ما يكون رغم كل التنازلات التي قدمها فرسان سلام الشجعان للعدو الإسرائيلي.
وخسر كل الذين راهنوا على استقرار أوضاع العراق. فها هي الأيام تثبت أن العراق دخل في دوامة من الفوضى والقتل والتدمير. تجعل مصيره خاصة من حيث وحدة التراب في مهب رياح المجهول وها هم العراقيون مشردون تحت كل سماء.
وخسر كل الذين راهنوا على أمريكا وإسرائيل لنزع سلاح المقاومة في لبنان. وها هم يحاولون خطب ود المقاومة.
وخسر كل الذين راهنوا على أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية عنصر استقرار للشرق الأوسط ولشرق آسيا. وها هي السياسات الأمريكية تدخل المنطقتين في بحر من القلاقل والفتن والاختلافات والتفجيرات التي لا حد لها.
وخسرت الأنظمة التي وضعت كل أوراقها في السلة الأمريكية فلم تنقذها أمريكا من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. بل لقد تخلت عنها عند أول فرصة، فقد كررت ما فعلته مع شاه إيران في أواخر السبعينيات مع برويز مشرف هذا العام مما يؤكد خسارة كل الذين صاروا عملاء لأمريكا سراً أو جهراً تماماً مثلما خسر كل الذين تخلوا عن مواقفهم ومبادئهم طلباً لودها.
ومثلما خسرت الأنظمة التي راهنت على أمريكا، فقد خسرت حركات المعارضة التي راهنت على أمريكا وطلبت نصرتها. فتحولت هذه الحركات إلى مجرد دمى وأدوات بيد الإدارة الأمريكية تستخدمها عند الضرورة. كما يستخدم المرء ورق التواليت.


وقبل هؤلاء جميعاً خسر أولئك المبهورون بالأمركة الذين راهنوا على الولايات المتحدة الأمريكية وحاولوا تسويقها على أنها البلد الذي ينشر الحرية والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان. فإذا ذلك كله سراب. فقد كشفت الأحداث والوقائع أن أمريكا بلد التعصب والرؤية الأحادية خاصة على صعيد العقائد والأفكار، فقد أثبتت الدراسات والوقائع أن أمريكا دولة دينية أصولية متعصبة، يحكمها من يسمون أنفسهم بالمحافظين الجدد الذين لا همّ لهم إلا تحقيق نبوءاتهم التوراتية. كما كشفت الوقائع أن أمريكا بلد السجون السرية، والتعذيب الوحشي، في أبو غريب وغوانتانامو وغيرهما. وإذا هي بلد التنصت ليس على شعوب العالم بل على مواطنيها. وإذا هي بلد العنصرية العرقية والطبقية. وإذا هي قاتلة الإعلاميين المضيقة على حرياتهم. فبدلاً من أن تنشر الولايات المتحدة الأمريكية الحرية والديمقراطية تحالفت مع الدكتاتوريات العسكرية ونشرت السجون السرية، وطاردت الإعلاميين، وزرعت الكراهية والحقد فحصدت الخسائر والهزائم المتلاحقة.
إن كل هذه الخسائر والهزائم التي تتلاحق على الولايات المتحدة الأمريكية. وآخرها الأزمة المالية التي يعاني منها العالم هذه الأيام. تؤكد ما سبق وأن قلناه عن سقوط الامبراطورية الأمريكية وما سبق وأن أكدناه أن أمتنا ومقاومتها ستكون سبباً. إن لم تكن السبب الرئيس لسقوط الامبراطورية الأمريكية. تماماً كما كان الحال مع الإمبراطورية السوفييتية. احتكاماً لحركة التاريخ التي أكدت أن جل الامبراطوريات سقطت هنا. وتحطمت على صخور هذه البلاد. عندما اعتدت تلك الامبراطوريات على هذه البلاد. وها هي الولايات المتحدة تشرب من نفس الكأس. وها هي مقاومة هذه الأمة تكلف الخزينة الأمريكية مئات المليارات مما ساهم في تعجيل الانهيار الاقتصادي الأمريكي وفضح أكذوبة المنعة الاقتصادية ومجتمع الرفاه والازدهار، والاقتصاد كما هو معروف هو الدعامة الرئيسية للجبروت الأمريكي.
إضافة إلى دور أمتنا ومقاومتها في إسقاط الامبراطورية الأمريكية، فإن هناك أسباباً أخرى كثيرة لهذا السقوط، الذي بدأت تلوح بوادره في الأفق. وأولها أن التجارب البشرية أكدت أن هذا العالم لا يمكنه الوقوف على ساق واحدة. كما حاولت أن تفعل أمريكا استفراداً بالعالم. وبسبب هذا الرفض للأحادية والاستفراد، صارت تتبلور الكثير من التكتلات والتحالفات للوقوف في وجه التفرد الأمريكي. وهي تحالفات تشتد وتقوى وتساهم في تحجيم الغلو الأمريكي تمهيداً لإسقاط الامبراطورية الأمريكية وتحقيقاً لدورة التاريخ ورفضاً لثقافة الاستبداد الأمريكي.
ولأننا نتحدث عن سقوط الإمبراطورية الأمريكية الذي تلوح بوادره في الأفق. وآخرها الأزمة الاقتصادية العالمية التي تعيشها البشرية هذه الأيام.

ولأننا نؤمن بأن لمقاومة أمتنا دوراً أساسياً ورئيساً في إسقاط هذه الإمبراطورية. تماماً كما كان الأمر مع الامبراطورية السوفييتية.

فإننا نحب أن يكون لأمتنا دور في حياة البشرية في المرحلة القادمة من تاريخ هذه البشرية. من خلال تقديم هذه الأمة لبديلها الحضاري. بعد فشل المشروع الحضاري السوفييتي والمشروع الحضاري الأمريكي الغربي الرأسمالي. وأول خطوات تحقيق هذا المشروع أن نسعى جميعاً نحن أبناء هذه الأمة من طنجة إلى جاكرتا إلى التخلص من التبعية للأمريكي.

ومن آثار هذه التبعية على الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وهذا يستدعي تخليص الخطاب الإسلامي من كل عيوبه وخاصة الإنشائية ومنهج التلاوم وأسلوب التبرير والاقتصار على التغني بأمجاد الماضي. ليصبح هذا الخطاب خطاب استشراف للمستقبل مصحوباً بجهد عملي لتقديم نماذج ملموسة لحل مشاكل البشرية في كافة مجالات الحياة. عبر مشروعات عملية. وانخراط أكثر للدعاة في حياة الناس اليومية. والسعي لتقديم حلول عملية لمشكلات هذه الحياة، وهذا يعني أن على علمائنا أن يقدموا من أنفسهم النموذج والقدوة سواء على صيعد المقاومة السياسية والعسكرية أو على صعيد السلوك الاجتماعي والاقتصادي. وقبل ذلك كله الإيمان بروح الجماعة سعياً لوحدة الأمة لتكون قادرة على ملء الفراغ الذي سينجم عن سقوط الإمبراطورية الأمريكية التي ملأت الأرض ظلماً وعدواناً وصار علينا أن نملأها عدلاً وسلاماً

(100)    هل أعجبتك المقالة (105)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي