كنا قد كتبنا في هذا الموضوع بالذات قبل ما يزيد على أسبوعين وذلك عندما قام الشيخ يوسف القرضاوي بهجوم غير مسبوق على المذهب الشيعي وأتباعه متهما إياهم بأنهم إنما يحاولون "غزو" العالم السني وتشييع أتباع هذا المذهب، وإنهم يوظفون مبالغ طائلة من اجل ذلك، ونعتقد بأن من قرأ تحذيرات القرضاوي صار يشعر بان المذهب السني أصبح في مهب الريح وان هذا المذهب الذي استمر استمرار عمر الإسلام قد يصبح من الماضي إذا ما استمر سكوت أهله على ما يفعله الشيعة.
عندما نكتب في هذا الموضوع فإنما نكتب لأن الشيخ القرضاوي عاد إلى ذات الموضوع برغم ما أثارته أقواله في المرة الأولى من لغط وجدل كبيرين، ونحن والجميع يعلم بأنه صار لدى الشيخ علم بان تلك الأقوال أثارت " زوبعة" غير مسبوقة وكنا نتمنى أن يدرك الشيخ بعد ذلك بان المسلمين بمذاهبهم ليسو بحاجة إلى تكرار مثل هذه الدعوات والأقوال، أما وإنه عاد وأثار الموضوع بطريقة ليست بعيدة عما قيل في المرة الأولى فإننا نتساءل عن سر إصرار الشيخ على إثارة الموضوع خاصة وانه كان لحديثه الأول تداعيات غير طيبة كما اشرنا، والحقيقة إن السؤال الذي نود سؤله للشيخ هل إنه يعتقد بأنه بإثارة الموضوع بهذا الشكل الذي أثاره في رسالة منه إلى الدكتور أحمد أبو المجد أمين مجلس حقوق الإنسان المصري يعتقد بأننا سوف نصبح أكثر اقتناعا بما ذهب إليه من اتهام للشيعة في محاولات نشر مذهبهم، وهل يجب علينا كمسلمين من المذهب السني أن نعتبر أن ما قاله هو "منزل" وان علينا ألا نناقشه وان نأخذه على علاته وأن أقواله هي عين الحقيقة، وان من سيناقش ما يقوله الشيخ فإنما هو خارج عن المذهب.
إن ما كتب حول الموضوع من قبل من أيد الشيخ في ما ذهب إليه كان فيه الكثير من التعسف والابتعاد عن المنطق ومحاولة التشكيك بالآخر خاصة من أتباع المذهب السني الذين دعوا كما دعا الدكتور أبو المجد بإغلاق الملف وعدم إثارته، لا بل وصل الأمر بالبعض إلى السب والشتم في بعض من ردودهم وتعليقاتهم وذهب البعض الآخر إلى تكفير من انتقد دعوة الشيخ وأقواله، كما إننا لا نرى ما هو الضير في أن يدعو الدكتور أبو المجد إلى إغلاق هذا الملف خاصة وان الأمم الإسلامية ليست بحاجة إلى مزيد من التشتت والتشرذم والاختلاف، ويمكن أن يترك مثل هذا الملف لأهل الاختصاص لمعالجته بعيدا عن الضوضاء والضجيج ووسائل الإعلام، عدا عن أن هذا الملف كان موجودا على مدار كل القرون الماضية ولا نرى أي ضير في أن يترك لسنوات عديدة أخرى.
الحقيقة إن أولئك الذين ذهبوا إلى تأييد الشيخ القرضاوي في ما قاله إنما نسوا أو هم تناسوا إن هذا الموضوع لم تتم إثارته بهذا الشكل الفج،الوضيع والمقصود، إلا بعد احتلال العراق وقدوم الجيوش الأمريكية وغير الأمريكية غازية لأرض الرافدين، وان أول اجتماع عقده الحاكم المدني بريمر مع "قادة العراق الجديد" كان على أساس طائفي- مذكرات بول بريمر-عام قضيته في العراق - النضال لبناء غد مرجو ص63، وانه وحيثما تحدث بريمر عن العراق وأبناء العراق فإنما يستخدم التقسيمة الطائفية - الشيعة والسنة - وبالإمكان العودة إلى كتاب بريمر لمن أراد، ويبدو إن هؤلاء الذين باتوا ينظرون لهذا الانقسام بين الشيعة والسنة اكتشفوا موضوع الاختلاف الآن أو في هذه المرحلة من الزمن علما بان هذا الاختلاف موجود منذ قرون كما اشرنا.
إن ما قيل على لسان الشيخ وما ورد في رسالته فيه إصرار على إبقاء هذا الموضوع متقدا برغم أن الشيخ قال فيما قال "انه لم يكن في يوم من الأيام مهيجا ولا داعيا إلى فتنة"، فإذا كان الشيخ كذلك، فلماذا توجيه الرسالة إلى أبو لمجد الذي طالب بإغلاق الملف بعد التصريحات الأولى للشيخ والتي أثارت ما أثارته بين المسلمين شيعة وسنة؟، ثم لماذا لا يكون مثل هذا الإصرار من الشيخ على قضايا وأمور حساسة كما نراها ويراها غيرنا من أبناء الأمة ويتضح فيها ما للدول الغربية وعلى رأسها أميركا من أطماع في دول الإسلام والعروبة؟، ولماذا لم نسمع تعليقا على دعوة وزير خارجية البحرين إقامة تكتل يضم إسرائيل والدول العربية على سبيل المثال من الشيخ الجليل، أم ترى مثل هذه المسائل لا تهمه؟.
الشيخ القرضاوي بما أثاره إنما يذكرنا في الحقيقة بما قيل أو نشر في مجلة الوطني السعودية عن فتوى للشيخ أجاز فيها بالاستقواء والاستعانة بالقوات الأميركية عندما توجه صدام حسين بقواته إلى الكويت في العام 1990، هذا عدا عن أن الشيخ كان يمكنه أن يكتفي بما أثارته أقواله الأولى والانتباه إلى قضايا أخرى غير هذه القضية خاصة وإنها لم توقع بين الشيعة والسنة فحسب لا بل هي قسمت أتباع المذهب السني إلى من هو مع ومن هو ضد ما قاله، وهذا يعني أن كثيرين من أهل السنة اعتبروا أن أقوال الشيخ إنما هي أقوال اقرب إلى السياسة منها إلى الدين وان لها أبعادا سياسية بحتة ولا علاقة لها "بالصراع" بين المذاهب الإسلامية.
من الواضح أن أقوال الشيخ القرضاوي تفرق ولا توحد وهي تنفر ولا تقرب خاصة وانه يتبوأ مركزا مهما في اتحاد علماء المسلمين "رئيس الاتحاد" وكنا نتمنى لو أن زملاؤه في الاتحاد كانوا على علم بما سيقول أو انه جادلهم في الأمر ومن ثم اتفق معهم على قول محدد في هذا الشأن، لكن من الواضح أن الشيخ تصرف على هواه وهذا لم يكن موقف الاتحاد مما يشير إلى أن ما قاله ليس بالضرورة قول حق وان علينا أن نأخذه كمسلمات لا مجال للنقاش فيها.
وحتى لا نكرر مثل ما كرر الشيخ في رسالته وما قاله سابقا فإننا نقول للشيخ إن من حق أتباع أي مذهب مهما كان سواء شيعيا أو سنيا أو حتى أصحاب أي ديانة أن يعملوا على نشر معتقداتهم وإلا ما معنى أن يتم نشر الإسلام في شتى بقاع العالم انطلاقا من ارض الجزيرة العربية وهل كان على المسلمين أن لا يقوموا بنشر معتقداتهم في العالم، وإذا كان الشيخ "قلقا" على المذهب فما عليه إلا أن يجند مليارات الدولارات من فوائض أسعار النفط وخزائن ملوك وأمراء الدول المنتجة لهذه المادة من اجل الترويج أو كما قال "التبشير" للمذهب السني ولا اعتقد بان أحدا سيحول دون ذلك، أما أن يظل الشيخ يحذر من الخطر الشيعي فهذا غير مقبول لان في ذلك ترسيخا للفرقة وإثارة للنفوس نحن لسنا بحاجة لها في ظل ظروف بات من المعروف للجميع بأنها في غير صالح المسلمين بشتى انتماءاتهم ومشاربهم ومعتقداتهم.وفي هذا المجال لا بد من أن نسأل الشيخ كم على سبيل المثال هي القنوات الفضائية التي تروج للمذهب الشيعي إذا ما قورنت بتلك التي تروج للمذهب السني وهل من وجه للمقارنة في الأعداد؟، وكم هو عدد المسلمين من الشيعة في العالم مقارنة مع أعداد السنة وكم من الدعاة من الشيعة موجود في العالم مقارنة بأعداد الدعاة من أهل السنة؟نسأل الشيخ بالله الإجابة على ذلك.
إن الاستمرار في التهويل من خطر المذهب الشيعي والسكوت عن الأخطار التي تتعرض لها الأمة العربية والمسلمين في هذه المنطقة وغيرها من العالم يصبح أمرا يدعوا إلى التساؤل حتى لا نقول الريبة والشك، والمطلوب من الشيخ أن يتوقف عن الخوض في هذا الموضوع على الأقل بهذا الشكل المعلن والذي تسبب كما هو واضح وكما اشرنا إلى تعميق الشرخ والهوة بين المسلمين حتى ضمن المذهب الواحد بدلا من التقريب بين أتباع الدين الحنيف.
لقد قام الشيخ بإيصال رسالته من خلال التصريحات الأولى التي أدلى بها قبل ما يزيد على الأسبوعين ثم تلاها بعد أن تم الرد عليها بتصريحات أكثر شدة وما أن كاد الأمر أن يصبح من الماضي حتى عاد الشيخ لإثارته من جديد في رسالته إلى الدكتور أبو المجد، والسؤال لماذا هذا الإصرار على ذلك؟
أن تتحالف القوى المناوئة لقوى الهيمنة العالمية فهذا ليس بالضرورة معناه ان تكون قد اتبعت نفس النهج أو المذهب ، فهل إذا تحالفت أميركا " وهي طبعا متحالفة لا بل وحامية" مع الدول العربية والإسلامية يعني أن أميركا أصبحت إسلامية، وبنفس الفهم هل إذا تحالفت حركة حماس مع دولة إيران يصبح أتباع حماس من الشيعة أو العكس وهل إذا تحالفت حركة الجهاد مع حزب الله تصبح حركة الجهاد شيعية، ألا يعلم الشيخ بان هنالك تحالفا وطيدا بين قوى مسحية وإسلامية سنية مع قوى مقاومة شيعية في لبنان؟، ترى هل هذا يعني أن هؤلاء تحولوا إلى شيعة؟، وهل أصبح الجنرال عون شيعيا؟، وهل إذا قامت المظاهرات في الشارع الفلسطيني أو المصري أو الأردني تأييدا لحزب الله يكون هؤلاء من أتباع المذهب الشيعي؟
إن محاولات التهويل والتخويف من مد شيعي في العالم "السني" لم يعد مقنعا لأحد، الشعوب العربية والإسلامية تقف مع من هو مقاوم ومع من هو ضد القوى الاستعمارية، تقف مع شافيز ومع نجاد ومع حسن نصر الله لان هؤلاء يقفون ضد أميركا وإسرائيل وكل قوى الهيمنة العالمية،ترى هل اصبح شافيز شيعيا؟ وعندما وقفت الناس بمشاعرها مع روسيا في حربها ضد جورجيا فلان الأخيرة مرتبطة بإسرائيل وأميركا وتمثل قباحة الاستعمار والهيمنة والتبعية وليس لأنها أصبحت روسية الانتماء.
عندما يتحدث الشيخ عن ضحايا العنف في العراق فانه مع الأسف يتحدث فقط عن ضحايا العنف الذين سقطوا على أيدي الميليشيات الشيعية ولا يتطرق أبدا لعشرات الآلاف من الضحايا الذين سقطوا على أيدي الظلاميين من ابتاع تنظيم القاعدة، لا نعتقد بان الشيخ لا يرى، وإذا كان يتهم الآخرين بأنهم لا يروا ذلك فانه أيضا مصاب بنفس الداء، لأنه يرى فقط ما يرغب برؤيته ويغض الطرف عما لا يريد رؤيته، وإذا كان يرى أن كل من اسمه عمر وعثمان وعائشة يقتل فكان عليه أن يرى بان كل من كان اسمه حيدر وكرار وسجاد أيضا يقتل، وإذا كان يرى حرقا للمساجد في العراق فكان عليه أن يتذكر وأن يذكر تدمير الحسينيات والمساجد التابعة للشيعة أيضا، كان حريا بشيخ مثل القرضاوي أن يرى الصورة كاملة لا أن ينتقي ما يشاء من أجزاءها، ويعمم ما يرغب وما يشتهي، لان في ذلك كتم للأمانة ونقصان في قول الحقيقة كاملة.
أخيرا يمكن القول إن الشيخ عندما يتطرق في رسالته إلى المد القومي الإيراني وعندما يتحدث كذلك عن لبنان وعما وصفه "بمآس تقشعر لها الأبدان" وكذلك عما قال انه "اجتياح" حزب الله لبيروت وما قال عنه انه "جرائم لا تكاد تصدق" فإنما هو يبتعد تماما عن كل ما قاله في قضية المد الشيعي أو "التبشير" للمذهب الشيعي ، وهو هنا ينزلق إلى ما يردده فريق إسرائيل وأميركا في لبنان، وهو يتحدث عن أشياء لم تحدث أبدا ويتوهم جرائم وقعت في بيروت ولبنان لم يروج لها حتى أعداء حزب الله في ذالك البلد، كذلك فإنه شتان ما بين القومي وما بين الديني ومن هنا نعتقد بثقة بان الموضوع يتعلق بالسياسة أكثر مما يتعلق بالدين والمذهب وكان على الشيخ ألا ينزلق إلى هذا المنزلق لأنه منزلق خطير، وهو كذلك مؤشر على أن الموضوع له علاقة فقط بالحرب على المقاومة في لبنان وفي كل ما يقال عن خطر إيراني موهوم فيما يتعلق بالدول العربية وبالبرنامج النووي الإيراني الذي أصبح تحت المجهر الأميركي والإسرائيلي علما بأنه لم يتحدث عن الخطر الإسرائيلي أو الأميركي وما تمثلانه من أخطار على الأمة بكل ما فيها من شيعة وسنة وغير مسلمين.
12-10-2003
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية