تحوم طائرة النظام الحربية، تلقي حمولتها المدمرة، تتهاوى بيوت وتسقط بنايات، يقضي من يقضي ويجرح من يجرح، ويفقد آخرون أطرافهم.. مشهد مفجع يتكرر كل يوم وربما كل ساعة في غوطة دمشق، ومع تكراره يزداد عدد الضحايا، الأحياء منهم والأموات.
أما الضحايا الأموات فيدفنون، وأما الضحايا الأحياء فعليهم أن يستأنفوا مسيرتهم بلا يد أو ساق، وربما بلا طرفين أو أكثر.. وعلى مبتوري الأطراف هؤلاء أن يعضوا على جراحهم العميقة، وسط ظروف الحصار الذي أرهق المنطقة وكاد يفرغها من أي مؤهلات أو إمكانات.
في آخر هذا النفق المعتم الذي يراه أصحاب الأطراف المفقودة، يقف رجلان، بسيطان في تعليمهما، بسيطان في حديثهما، لكنهما كبيران في عزيمتهما وإصرارهما على تقديم المساعدة لمن فقدوا الأمل بـ"الحصول" على طرف صناعي يمكن أن يعوضهم شيئا مما فقدوه.
*مبتكر متخف
تحت سقف ورشته في مدينة دوما، وبين عُددٍ وأدوات جمعها واشتراها من ماله الخاص، يعمل "أبو صلاح الدومي" وشريكه في الأمل والإصرار "أبو العز".. يعملان على "إنتاج" وتركيب الأطراف للمحرومين منها، مصرين على تقديم خدماتهما -التي يطلب عليها آخرون آلافا مؤلفة- بالمجان.
"أبو صلاح" الذي مارس الحدادة وتفنن فيها، نشا أمياً لايعرف قراءة أو كتابة، ويوماً ما قرر أن يتعلم على الآلة الكاتبة! فأصبح يميز بين الحروف ويطبع ما لا يعلم معناه، ومع الوقت تعلم الكتابة والقراءة وانتقل إلى تعلم الخط العربي، وصار من هواة المطالعة.
مبتكر متخف في ثياب حداد، ذلك هو "أبو صلاح"، الذي شارك في جهود التصنيع الحربي، أيام كانت كلمة الثوار في منطقته واحدة تقريبا، لكنه هجر الميدان عندما استفحلت الفصائلية وصارت مدعاة للفرقة والنزاع.
لم يترك الحداد شغفه بالعمل والابتكار، فقط غيّر صورة ومجال هذا الشغف، فانتقل إلى صناعة الأطراف معتمدا على "مؤسسة دوما الخير للأطراف الصناعية" التي أنشأها، مختارا صديق طفولته "أبو العز" ليكون شريك هذا العمل التطوعي الجبار.
استحضر "أبو صلاح" كل طاقاته، وهو يباشر تصنيع وتركيب الأطراف للمحرومين، واتكأ على خبراته في الحدادة، إضافة إلى ما تعمله من مبادئ المعالجة الفيزيائية والطب البديل طوال 20 عاما، لينتج ويركب -بإمكانات بسيطة- أطرافا لنحو 1850 مبتورا ومعاقا، دون تقاضي أي أجور أو أتعاب.
*"اللي ما بينبع بيخلص"
أنفق "أبو صلاح" على مشروعه من ماله الخاص، رافضا أي تمويل مشروط، مهما كانت شروطه، ولكن الحرب طالت والنظام تغول في إجرامه، فزاد عدد المصابين، والمال الذي كان يدفعه الحداد صاحب اللحية البيضاء من جيبه انتهى أو شارف على الانتهاء، و"اللي ما بينبع بيخلص"، حسب تعبيره.
تباطأت وتيرة العمل، ودفع انحسار التمويل مؤخرا إلى الاكتفاء بتصنيع طرف واحد أسبوعيا، فيما كان الرجل وشريكه ينجزان 3 أطراف في الأسبوع الواحد.
التف البعض حول "أبو صلاح" و"أبو العز" وعملوا معهما، لكن الشح المادي أدى إلى انفضاض معظمهم.
"أبو صلاح" الذي يحب الابتكار، يكره الفصائلية والحزبية، ويبعد نفسه عن أي تصنيف.. هو في يقينه مجرد متطوع لخدمة الناس المحتاجين، ومن هنا أطلق عمله في مجال تركيب وصناعة الأطراف في حزيران/يونيو 2013، وبعد نحو شهرين، احتفى "أبو صلاح" بالانتهاء من تصنيع أول طرف، وتحديدا في يوم 5-8-2013، اليوم الذي يذكره الرجل بدقة وحماس، وكأنه يوم ميلاده، أو ميلاد عزيز على قلبه.
تستحيل المواد المجموعة من هنا وهناك، بل والمنتشلة من تحت الأنقاض.. تستحيل إلى خامات في تصنيع الأطراف.. كيف، وهل يعقل؟!.. ليس لك إلا أن تراقب حماس الرجل وشريكه واندفاعهما، وبإمكانك أن تعاين كما عاينّا أماً مكلومة جاءت بطفلتها الصغيرة لتركب لها طرفا عند "أبو صلاح".
لايدعي أبو صلاح أن ما يصنعه يوازي ما تنتجه الشركات المدججة بالآلات الحديثة والإمكانات، لكنه يؤكد أن المحروم لايخرج من "ورشته" إلا وهو يتمتع بطرف صناعي يتيح له الحركة السليمة، لاسيما مبتوري الأقدام.
"أبو صلاح" و"أبو العز"، حكاية رجلين بسيطين شجاعين شغوفين بالابتكار محبين للخير.. حكاية يصعب وصفها بالكلمات، وقد يكون في التقرير الذي صورته "زمان الوصل" ما يغني، ويقدم الإجابات للجميع: متعلمين وأميين، أغنياء ومتعففين، متطوعين ومأجورين، مندفعين ومتقاعسين.
ريف دمشق - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية