لا وقت لدينا للمرض ، وليس فينا متسع لتقبل فيروسات جديدة ترسل إلينا أو تصنع من أجلنا ، لذلك أجد من الغرابة أن يتحول الشرق من منجم للنفط والكادر البشري الرخيص والأسواق الخام، إلى منهل للحكايا التي تنفخ وقوداً في الرواية والسينما ، مع إيماني بطزاجة الخيال العربي الذي أورد أبدع الأساطير وأغربها .
ففي الشرق نبتت بذور الشطحات الروائية التي أسست لتيارات كتابية عالمية وهذا محقق في التجربة النقدية الغربية قبل العربية ، فما (جول فيرن) في جنون خياله إلا امتداداً طبيعياً لقصص ألف ليلة وليلة، وما(نيكولاي كوزين) إلا تكملة تناصية مع سيف بن ذي يزن وشبيهاتها .
إذاً الشرق بئر حكايات مذهلة ... لكن عندما تأتي السينما لتكوي ملابسها في إحدى هذه الحكايات ، فلا بد أن تكون هناك ذهنية انتقائية تحكمها (سياسة مدروسة) أدت إلى اختيار هذا القص دون غيره .
لعل هذا ما دفعني للتساؤل عن إقدام هيئة الإذاعة البريطانية على استعارة شخصية عربية وصرف أموال طائلة من أجل تصنيع فيلم سينمائي عن حياتها .
فهل فرغ المشهد الغربي من أبطال حتى يستعار الشرق بهذه الفظاظة المتسترة داخل فن راق هو السينما ؟ ولماذا صدام حسين صاحب الانهيار التراجيدي المعروف ؟ وما دامت نشرات الأخبار والأفلام الوثائقية لم تفرغ بعد من الحديث عن سقوط الطاغية وبغداده الحزينة ، لماذا تنقل الحكاية إلى السينما ؟ .
قد يبدو المشهد مفهوماً بانطباع مدرسي أولي ، إلا أن نظرة هادئة للمدلولات التي يقدمها الفيلم ، تقودنا إلى فهم سيل الرسائل التوجيهية والترهيبية التي نفثها في صفوف متلقيه ،خاصة إذا عرفنا أن الفيلم ناطق بالإنكليزية وليس العربية ، وهذا يعني كتقييم مبدئي أن الرسالة ليست موجهة للعرب بشكل مباشر إنما لمنظومات أخرى لا نعرف هويتها بالضبط ... و إذا أمعنا التدقيق مرة ثانية نتأكد من أن اختيار ممثل إسرائيلي من أصول يهودية عراقية للعب دور صدام حسين في الفيلم فيه رسائل إضافية كثيرة.
فقد ارتأت البي بي سي بالتعاون مع موقع الانترنيت المعروف (YOU TUbe.com) أن تنتج جوهرة سينمائية بعنوان (بيت صدام) بطولة الممثل الإسرائيلي إيكال ناعور ومشاركة الممثلين شوهري اغداشلو بدور (ساجدة عبد الله) وفيليب ارديتي بدور (عدي صدام حسين) وسعيد طغماوي بدور( برزان التكريتي) وكريستين ستيفن دالي بدور (سميرة الشابندر) إضافة إلى الممثل المصري عمرو واكد بدور (حسين) .
الفيلم ترجم كما ورد في (تيتر) العمل في (النجف) من قبل شخصية أرادت عدم كشف اسمها إلا من قبيل الإشارة ، حيث كتب : ترجمة علاء الدين ، والترجمة لم تكن باللغة العربية الفصحى بل باللهجة العراقية .
الآن بعد أن قدمنا بطاقة التعريف بالعمل دعونا نتفحص بعض ما جاء فيه :
يبدأ الفيلم في منطقة الدجيل حيث شهد مسرحها محاولة اغتيال صدام حسين الذي يوبخ شقيقه من والدته برزان لأنه المسؤول الأمني عن حمايته الشخصية ...ويظهر صدام في المشهدين الثالث والرابع مشككاً بأخيه من أمه لدرجة أنه يقوم بعزله من منصبه خوفاً من أن يكون متورطاً مع بعض القادة في اغتياله ، لا سيما أن أخباراً وصلت لصدام تؤكد أن العراقيين يعتبرون الأخ غير الشقيق هو الرجل الأول في العراق ، وفي حال وفاته سيكون برزان رئيساً دون منافس.
ثم تسير أحداث الفلم حسب تسلسل أميركي واضح ، فبرزان في الفيلم هو الذي يطلق مجزرة الدم في الدجيل دون علم صدام ، لكي تتم المطابقة بين أحداث الفيلم وأحداث محاكمة صدام وحاشيته ومنهم برزان ، الذي جاء في قرار إدانته أنه فجر مجزرة الدجيل دون الرجوع إلى قرار رئاسي واضح ، مما استوجب إعدامه .
بعدها تموت أم صدام التي توصيه قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة بأن يقرب العائلة منه ، لأنها الأوفى والأكثر حباً ، وكما في الأفلام التي تتحدث عن الطغاة يمر مشهد موت الأم مرور الكرام لأن الطاغية في أفلام السينما لا يحزن ولا يفجع ولا يبكي أو يضعف ، مما يؤكد فرضية أمركة السيناريو الذي يسير وفق مسارات أفلام هوليود كلها ، خاصة أن صدام حين يلتقي بأخيه يقلب وصية أمه رأساً على عقب ويدعي أنها طالبته بإقصاء العائلة وأن لا تتزوج (رغد)ابتنه من ابن برزان .
ويمضي سيناريو الأحداث بطريقة مفبركة درامياً ، لكنها واضحة الأهداف دلالياً، فكل المشاهد في السيرة الصدامية ليس فيها إلا القتل والاغتصاب والتعذيب والشك بأقرب الناس والفتك بهم ، حتى أن المسألة طورت في مشهد يجتمع فيه قادة الحرب مع صدام ويخبروه أن اللواء الذي دخل الحدود الإيرانية انسحب منها لأنه لم يتلق الإمدادات ، فيطلب صدام إعدام صاحب القرار الذي يعتبر مفكراً عسكرياً ... بحجة أن الجيش العراقي لا ينسحب ، وهذا ما يخالف كل المعلومات التي رشحت عن القيادة العسكرية العراقية التي كانت تقول : إن صدام أستاذ الكر والفر وأنه وفي أكثر من خطاب عسكري كان يهنئ المنسحبين من أراض إيرانية احتلوها لأنهم تركوا أثراً عراقياً في تلك الأراضي و سوف يعودون لتأكيده ذات يوم .
ما يعنيني من هذا المقال ليس تقديم حكاية الفيلم أبدا لأنه سيشاهد قريباً ، ما يعنيني هو الأسلوب الذي يرسم فيه الغرب شخصيات الطغاة ، والدسائس التي تدرس من قبل منظمات وجمعيات تدعي حماية حقوق الإنسان ، وما يعنيني أكثر هو الرغبة الغربية في تكريس الأفعال السياسية الخاطئة أو الصحيحة من خلال الفن ، وما يعني الجميع الآن هي نقاط سأختصرها بالتالي :
1- تم إيراد شخصية صدام حسين في الفيلم بطريقة لا تقنع أعداءه ، إذ ليس معقولاً أن يكون هذا الرجل جداراً سوبر مانياً لا يمتلك من صفات البشر إلا الصورة فقط ، ففي فيلم دراكولا مصاص الدماء يظهر البطل بصورة إنسانية شفافة عندما يشاهد طفلاً يبكي ، فيقوم البطل بتأجيل وجبة دموية من أجل أخذ الطفل إلى أمه ، فهل من المعقول أن يكون دراكولا متفوقاً على صدام بإنسانيته .
قد يقول قائل :إن الفيلم مكتوب للتدليل على وحشية النظام العراقي ممثلاً بصدام ، إلا أننا أمام فيلم توثيقي ، والتوثيق يفترض عرض جميع السمات وإلا كان الفيلم ناقصاً وهذا ما حدث فعلاً.
2- لم يأت الفيلم على ذكر المصادر التاريخية التي اعتمد عليها في تقديم الحكايات ، مما يجعلنا مشككين في أغلب ما أورد .
3- نحا الفيلم رغم براعة الفرجة السينمائية إلى تقنية أفلام المقاولات التي انتشرت يوماً ما في مصر ، حيث يكون البطل حاضراً في جميع المشاهد مما يغيب كواليس صناعة الأحداث ، لأن الأشخاص الذين في دائرة البطل هم من يفسرون المناخ السائد في ذلك المكان أكثر منه ، وبالتحديد لحظه غيابه عنهم
4- لم يوضح سيناريو الفلم الهدف الأعلى من الذهنية الاصطفائية في اختيار الشخصيات العراقية التي لا يكتمل العمل إلا بوجودها ، فكثيرة هي الشخصيات العراقية التي كان لها دور مهم في تاريخ العراق سلباً أو إيجاباً ولم يكن لها وجود ، حتى أن شخصية علي حسن المجيد أو (علي الكيماوي) تم ذكرها في مشهدين فقط مما يوضح ما قصدت .
5- أعطى الفيلم أكثر من ثلث ساعة لخطب صدام الشتائمية ضد الخميني ، وفي هذا دراما تحريضية بامتياز .
6- يظهر الفيلم شخصية عدي بأنها تمتلك من الغباء حجماً لا يتناسب مع الصورة التي نقلت إلينا من العراقيين أنفسهم ، حتى أن صدام كان يعتبر عدي -في الفيلم طبعاً- جحشاً صغيراً عليه أن يأكل فقط مع أنه كان يدربه على القسوة والدم البارد في أغلب المشاهد التي ظهرا فيها معاً
7- لم نفهم لماذا تمت ترجمة الفيلم باللهجة الدارجة العراقية ، هل للمحافظة على المصداقية مثلاً ، أم لأن الرسالة موجهة للعراقيين فقط ، وإذا كانت كذلك لماذا كان ناطقاً بالإنكليزية أصلاً .
فيلم (بيت صدام ) يطرح أسئلة كبرى أعتقد أنني لم أحط بها جميعها ،خاصة أن الإعلان عن الفيلم الذي بثته البي بي سي كان على خلفية موسيقا فيلم العراب للممثل الكبير ألباتشينو ،فهل هذا له دلالة أيضاً ؟ لذلك أدعوكم للمتابعة وإكمال ما بدأته.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية