يبدو أن العرب الرسميين اتخذوا منحى جديداً في التعاطي مع القضية الفلسطينية، فحلت مشكلة الانقسام الفلسطيني عندهم محل المشكلة الرئيسة التي نتج عنها الانقسام، وهي مشكلة الاحتلال الصهيوني. وفي هذا المنحى حرف لمسار القضية الفلسطينية، وتبرئة للاحتلال من جريمة احتلال فلسطين والتنكيل بشعبها، وتفريغ للقضية الفلسطينية من مضمونها.
إن المتتبع للموقف الرسمي العربي تجاه الأحداث التي تعيشها غزة والضفة المحتلة، يدرك دون عناء أن الأنظمة الرسمية العربية، التي تعبث بالقضية الفلسطينية وبمصير الشعب الفلسطيني، قد انتقلت من عملية المساهمة في تفعيل الانقسام الفلسطيني وتعميقه إلى عملية توظيفه، ليس لخدمة القضية الفلسطينية، وإنما لتحقيق أهداف سياسية معادية لطموحات الشعب الفلسطيني ومتفقة مع الأجندة الصهيوأمريكية في منطقتنا، ولإجباره على الرضوخ لشروط ما يسمى "المجتمع الدولي"، وذلك تساوقاً مع المخططات الصهيوأمريكية.
وبين عملية المساهمة في الانقسام وتوظيفه، يبرر العرب الرسميون تخاذلهم وتواطئهم مع الاحتلال الصهيوني، والإدارة الأمريكية، وحلفائها الغربيين، على المقاومة الفلسطينية، بالانقسام الفلسطيني. وتبرر أنظمة ما يوصف، أمريكياً وصهيونياً، بمحور الاعتدال العربي صمتها على الجرائم الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني باستمرار حالة الانقسام الفلسطيني، وتسوغ لنفسها مشاركتها في حصار غزة منذ أكثر من سنة. ولتضليل الرأي العام العربي، تتعامى دول عربية عديدة عن الأسباب التي أدت إلى هذا الانقسام، وهي سعي المجتمع الدولي لفرض شروطه الجائرة على الشعب الفلسطيني، عبر إلزام حركة حماس والحكومة الشرعية التي تتولاها بها.
تلك الشروط هي التي أججت نار الخلاف بين حركتي فتح وحماس، ثم سعت الإدارة الأمريكية لتطوير هذا الخلاف إلى حرب أهلية، عبر مؤامرة الجنرال الأمريكية كيث دايتون، وتحريض الأجهزة الأمنية والموظفين المدنيين في القطاعات الحكومية على التمرد والفلتان، عبر قطع مرتباتهم وشراء ذمم بعضهم، الأمر الذي أدى إلى الانقسام الكبير الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني. ولا تزال الإدارة الأمريكية والاحتلال الصهيوني وحكومة رام الله غير الشرعية، تعمق الانقسام الفلسطيني وتحرف مسار القضية الفلسطينية.
ولو كان النظام الرسمي العربي حريصاً على القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، لدعم المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال، ولوقف ضد فريق نهج الاستسلام والتفريط والتنازل عن الثوابت والحقوق والأرض، سيما أن كل الحلول السلمية لم تؤد إلا إلى مزيد من الاستيطان الصهيوني واليهودي في فلسطين المحتلة، وضم الأراضي المحتلة للكيان الصهيوني، وتهويد مدينة القدس المحتلة، وتكريس الاحتلال وشرعنته.
وهذا هو الطريق لرأب الصدع الفلسطيني وإنهاء حالة الانقسام، وهو دعم المقاومة ضد الاحتلال، ومحاصرة الكيان الصهيوني بدلاً من محاصرة غزة، وإرسال قوات عربية لحماية المسجد الأقصى المبارك، ومساندة المقاومة الفلسطينية في الضفة المحتلة، بدلاً من إرسالها إلى غزة لتحجيم المقاومة، وإلجام المقاومين، وحماية الكيان الصهيوني من ضرباتهم، وتمكين أجهزة التعاون الأمني مع جيش الاحتلال من إعادة السيطرة على غزة.
ولكن العرب الرسميون يدعمون سلطة أوسلو، رغم ممارساتها القمعية والعبثية التي أنهكت الشعب الفلسطيني، ويؤمنون بأن التسوية السياسية هي خيارهم الوحيد للتعاطي مع القضية الفلسطينية، وأنه لا يمكن حل القضية الفلسطينية إلا وفق الرؤية الأمريكية، وعبر الاعتراف بما يسمى (إسرائيل)، ونبذ المقاومة، والالتزام باتفاقيات منظمة التحرير الفلسطينية مع حكومات الاحتلال الصهيوني.
ولذلك فإن العرب الذين يحاولون زوراً إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني، إنما يسعون في حقيقة الأمر لحشر حركة حماس والحكومة الشرعية في زاوية ضيقة وممارسة الضغط عليها، لتنصاع إلى الاشتراطات والإملاءات الصهيوأمريكية، التي يتولى فريق رام الله المطالبة بها والتفاوض عليها مع حركة حماس. وكل ذلك يتم تحت تهديد مبطن وبأساليب متعددة، مثل تهديد جامعة الدول العربية بمعاقبة من يُفشل الحوار من وجهة نظرهم المنبثقة عن النظرة الصهيوأمريكية، وتهديد مستشاري عباس وفريقه بإعلان غزة إقليماً متمرداً وأمارة ظلامية، ومطالبتهم بإقامة محكمة دولية لمعاقبة حركة حماس والحكومة الشرعية، وإعلان الكيان الصهيوني غزة كياناً معادياً...
وكل هذه التهديدات، المتناغمة مع التوجهات الصهيوأمريكية، تصدر عن فريق رام الله وجامعة الدول العربية في الوقت الذي لا نجد فيه موقفاً عربياً واحداً ضد تزايد إرهاب المستوطنين ضد الشعب الفلسطيني في الضفة المحتلة، ولا نجد موقفاً واحداً من أصحاب تلك التهديدات ضد حصار غزة، وقمع المواطنين في الضفة المحتلة، وزيادة عدد الحواجز العسكرية فيها...
إن حواراً كالذي يدعو العرب الرسميون إليه بين حركتي حماس وفتح، تحت هذه التهديدات التعسفية، لا يمكن أن ينجح، بل تدل هذه التهديدات على أن العرب، وفريق رام الله، وعدد من الأنظمة الرسمية العربية، والإدارة الأمريكية، وحلفاءها الغربيون، يبيتون أمراً عظيماً لغزة، كمسحها عن وجه الأرض، أو إغراقها في بحر من الدماء، أو ارتكاب محرقة وحشية، وإعادة الأوضاع السيئة إلى ما كانت عليها قبل إفشال مؤامرة الجنرال دايتون في غزة.
على العرب الذين يعبثون بمصير الشعب الفلسطيني، ويتساوقون مع المؤامرات الصهيوأمريكية ضده، أن يخلصوا شعبنا من الاحتلال الصهيوني، فهذه هي مشكلتنا الحقيقية، وأساس الانقسام الفلسطيني. أما محاولتهم لإنهاء حالة الانقسام دون معالجة السبب الحقيقي، فهي تُعد تبرئة للاحتلال الصهيوني من جرائمه ضد شعبنا، سيما جريمتي احتلال فلسطين ومحاصرة غزة، وإعفاء للاحتلال من المسؤولية عن الانقسام، وإعفاء للعرب من مسؤولياتهم تجاه الشعب الفلسطيني، وتسطيح للقضية الفلسطينية، وإفراغ لها من جوهرها ومضمونها.
5/10/2008
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية