
"عندما يتم الإمساك بالثعلب يتظاهر بأنه ميت"، عبارة كتبها أحد الزملاء على "فيسبوك" كـ"إهداء خاص لضمير BBC المهني وللضمير الإنكليزي الإنساني بمناسبة تغطيتها الخاصة بحلب".
وذلك تعليقا على اعتذار تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية بعد بثه لقطات مرافقة لعناوين نشرته الإخبارية قال إنها من مناطق تابعة للنظام، في حين أنها تعود لمناطق المعارضة التي تتعرض في حلب لأعنف هجمة مشتركة بين الطيران الروسي وطيران النظام.
لم تكن المرة الأولى التي تسقط فيها واحدة من أشهر المدارس الإعلامية العالمية في فخ المهنية، فسبق ذلك تقارير كثيرة في تغطية للحدث السوري تفضح لغتها الانحياز للنظام.
لعل أبرزها تقرير صادر عن كبير محققي الأمم المتحدة في قضايا حقوق الإنسان بتاريخ 18-3-2014، وإعداد قوائم المتهمين بارتكاب جرائم حرب، فعنونت تقريرها بـ"الأمم المتحدة: المعارضة السورية نفذت عمليات إعدام جماعي"، ولم تجد حرجاً أو عدم مهنية صحافية في أن تضع عنوانا منسوبا للأمم المتحدة بدل أن تنسبه لرؤيتها الخاصة.

وتغاضت "بي بي سي" عما ورد في التقرير المذكور من جرائم النظام، وقالت "إن جهاديين في صفوف المعارضة السورية نفذوا عمليات إعدام جماعي بحق معتقلين في سوريا. ويوثق أحدث تقرير صادر عن هؤلاء المحققين عدة حوادث في هذا الصدد، بما في ذلك حادث وقع في مستشفى للأطفال بمدينة حلب في يناير/كانون الثاني/2014" .
"بي بي سي" ليست وحيدة في هذا المضمار، منذ أيام نشرت "رويترز" خبر قرار الأمم المتحدة تعيين مسؤول لمتابعة شؤون المعتقلين والمغيبين وجرائم التعذيب، تجاهلت فيه توثيق 55 ألف صورة سربها "قيصر" لنحو 11 ألف معتقل قتلهم النظام تحت التعذيب في معتقلاته، أو حتى في مشافيه العسكرية، في ما اصطلح على تسميته "جريمة العصر".
وركز التقرير على انتهاكات التنظيمات المتشددة التي لا تقارن مع فظائع النظام بحق السوريين من حيث الكم أو النوع.
بدورها وكالة الأنباء الفرنسية، لم تخرج عن إطار تلميع النظام، فإضافة إلى إجرائها حوارا مطولا مع بشار، لم تخفِ تغطيتها الإخبارية محاولات "إعادة تدوير" النظام كمحارب للإرهاب، ولنا في تقريرها الأخير عن عودة الأهالي إلى تدمر بمساعي محافظة حمص، ونقل شهادات بعضهم، مثال واضح.
صحفيون سوريون استأنست "زمان الوصل" برأيهم عزوا انحياز كبرى وسائل الإعلام ووكالات الأنباء إلى ميول المراسلين، سواء في مكاتب "بيروت" حيث يسيطر إعلاميون موالون لحلفاء النظام عليها، أو لمن تبقى من مراسلين في دمشق لم يبقوا إلا لأن النظام راض عنهم.
ضمن هذا السياق ينقل لنا زميل كان مراسلا لواحدة من وكالات الأنباء أنه في بداية الثورة عندما يريد أن يمرر خبرا لا يعجب النظام، كان ينتظر حتى يناوب زميل له محسوب على "تيار المستقبل" اللبناني في مكتب بيروت حتى "يمشيه".
* حابل المهنية ونابل ميول المراسل
عمليا لا يمكن فصل السياسة التحريرية للوسيلة الإعلامية عن طريقة تعاطي مراسليها مع الحدث لاسيما وسائل الإعلام الحكومية أو شبه الحكومية، ولا تستنثى من هذا الأمر الوسائل "الخاصة" وإن اتسع هامش التمايز قليلا، بقدر ما تعتمد الموضوعية والاحترافية في تعاطيها مع الخبر، ويتسع هذا الهامش أكثر في الوسائل الكبرى كوكالات الأنباء وهي المطبخ الرئيس الذي يقدم الوجبة الأكبر لجمهور المتلقين في العالم، إضافة للفضائيات ذات الصبغة "العالمية".
لكن السياسة التحريرية ليست وحدها الحاكم في هذا الأمر، فللمراسل ميوله وتوجهاته، حيث يقترب من الموضوعية ويبتعد عنها بقدر ما يضع هذه الميول جانبا، وإن كانت الجوانب الأخلاقية تحتم في بعض الأحيان تعاطيا من نوع خاص، إلا أنها تبقى في خانة غير الملزم.
في الملف السوري، اختلط حابل الإعلام المحترف من قبل المراسلين، بنابل الميول السياسية والارتباطات الأمنية، بحيث لم يعد هناك أسس للعمل الإعلامي المهني، وهي أصلا لم تكن موجودة قبل بدء سنوات الثورة إلا في حدها الأدنى وبإشراف لجان أمنية تشرف على المراسلين المعتمدين في دمشق.
بعد ربيع العام 2011، فرض النظام وبشكل "أوتوماتيكي" قوانينه على المراسلين، فالتغطية حصرية للأحداث التي يريد النظام أن يتعاطى الإعلام معها، وأي تغريد خارج هذا السرب سيعني الملاحقة الأمنية والاعتقال أو الإجبار على عدم مزاولة المهنة، أو الإبعاد مثلما ما حصل مع مراسل وكالة "رويترز" "خالد عويس" عندما طلب منه المغادرة بعد نشره خبر يتعلق بالاعتقالات التي تمت في ساحة "المرجة" في آذار 2011، وأن تعتمد كما حصل فيما بعد على ناشطين أو أن يدخل المراسلون بطريقة غير شرعية إلى المناطق المضطربة، وهذا بدا واضحا بعد أن باتت الحدود السورية خارج السيطرة، وحصل أن وقع بعضهم في قبضة النظام وهذا ما جرى مع مراسل "رويترز" في عمان "سليمان الخالدي" الذي اعتقل لشهور قبل أن يتم إطلاق سراحه، وعندما حاولت الوكالة الالتفاف على الموضوع وتوصيل الأخبار عن طريق مصورها الراحل "خالد الحريري" اكتشفت أمره المخابرات السورية واعتقلته.
بعد هذه التجارب، "رويترز" كمثال باتت تعتمد على من تبقى من طاقهما في دمشق وهو طاقم لا يرى في سوريا سوى أحياء دمشق التي يسيطر عليها النظام، وحاولت عبر العديد من التقارير الإيحاء بأن لا شيء في سوريا، وكأن ما يجري هو في كوكب آخر، وهذا مقارنة بالفترة الأولى يؤكد أن الميول الحاكمة لفريق العمل ساهمت إلى حد بعيد في ما يتم إرساله من أخبار.
"أسوشيتد برس" هي الأخرى يعلم المطلعون على الشأن الإعلامي السوري أن مراسلها "ألبير عجي" بات ناطقا إعلاميا باسم النظام، حتى بات الكثير من زملائه يتندرون بمناداته بـ"العقيد ألبير" أو "صحفي الفرقة الرابعة"، ولو لم يكن كذلك لما بقي معتمدا في عمله، حتى اللحظة، بينما اضطر غيره لمغادرة البلاد، كما حصل مع مراسل وكالة الأنباء الألمانية، أو أجبر أن يترك عمله كما حصل مع مراسل وكالة "يونايتد برس" ومراسل "سكاي نيوز"، وفريق قناة "العربية"، وكذلك الأمر مع طاقم مكتب قناة "الجزيرة"، علما أن القناة وخلال الشهر الأول من الثورة لم تشر ولا بأي خبر من أخبارها لما يحدث في سوريا قبل أن تنقلب الآية، ربما لاعتبارات سياسية.
فريق وكالة الأنباء الفرنسية، لا يختلف كثيرا في طريقة تعاطيه مع الحدث السوري، فهو يعمل ضمن سياقات الخطوط المرسومة من قبل النظام مع محاولة للإبقاء على هامش من الموضوعية.
لسنا هنا في وارد إطلاق الأحكام المهنية والوطنية على أولئك الأشخاص، ولكن ما كان للنظام أن يسمح ببقائهم على رأس عملهم لولا أنهم إما يتكفلون بإرسال ما يريد إيصاله للرأي العام العالمي، أو أن ولاءاتهم الفكرية والسياسية تنسجم أصلا مع النظام، وهنا يكفي أن نشير إلى مثال واحد، هل هناك مادة صحفية تثير شهية الإعلامي أكثر من عملية القصف بالكيماوي ومقتل 1500 شخص معظمهم من الأطفال، الجواب المؤكد هو بالنفي، والسؤال الآخر لماذا لم تتم التغطية، الجواب لا يخرج عن احتمالين، الأول أنه تقصد التعمية، والآخر أن النظام منعه وهو ما لم يشر إليه أي منهم، وسواء أكان الجواب الأول أم الثاني فكلاهما عذر أقبح من ذنب، هذا بغض النظر عن الجوانب الإنسانية تجاه الضحايا من أبناء وطنهم.
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية