دونما استئذان، أخذنا الحريق الذي أتى على بعض محال سوق "العصرونية" بدمشق، إلى ما فعله الفرنسيون بسوق "الحريقة"، قبل أن تسمى المنطقة "حريقة" وكان اسمها "سيدي عامود"، وقت تمرد أهل الحي وخرج الثوار منه إلى مقر الجنرال الفرنسي "موريس سراي"، ليذيقوا المستعمر "سراي"، تماماً ما أذاقه تجار دمشق، للمستعمرين الجدد.
فمن "الحريقة"، ليس ببعيد عن "العصرونية"، خرجت أول انتفاضة في 17 شباط فبراير على ديكتاتورية الأسد الابن، بحادثة ضرب الشرطي لشاب من "عين منين"، بقصة معروفة أسست لكسر حاجز الخوف، ومن "الحريقة" و"العصرونية" وأسواق دمشق القديمة، خرجت آخر تظاهرة الشهر الفائت احتجاجاً على تهاوي سعر الليرة والمطالبة بإسقاط حاكم مصرف المركزي وإغلاق شركات الصرافة العميلة للنظام.
فكان الرد بالنار، كما فعل الفرنسيون في 18 تشرين الأول اكتوبرعام 1925 وقت أذاقوا محال الدمشقيين وأسواقهم، الويلات عبر حمم القذائف والطيران لثلاثة أيام متتالية.
واليوم، ليس ببعيد أن يكون الحريق رداً على تمسك محال سوق "العصرونية" وأصحاب البيوت، بأرضهم وذكرياتهم، وعدم البيع لتكتمل دوائر الحماية للسيدة رقية، ويمنع "سبي زينب" من جديد.
فمن يعرف جغرافيا الحريق الذي قيل صبيحة السبت إنه بسبب ماس كهربائي، في مدينة يقطع عنها التيار الكهربائي لأكثر من 15 ساعة يومياً، يدرك ربما الخطورة ويضحك لهذا العذر الأقبح من ذنب، فالمساحة من "المناخلية" مروراً بالعصرونية نحو "باب البريد" ومقام السيدة رقية، تشغل المستعمرون الجدد، الذين اشتروا الكثير من العقارات المجاورة، في أبشع عملية تغيير ديموغرافي قسري، يشهدها العالم.. وهنا لن نوسع الدائرة لنذكر بما جرى أمس من ترحيل أهل مضايا والزبداني.
لن نتمادى بالاتهام، علّ الأيام المقبلة تكشف سبب نيران الحقد التي أكلت بعض قلب دمشق، واحترقت لها قلوب السوريين من الأقصى إلى الأقصى.
وهاكم ما جرى بحي "الحريقة"، تاركين لمخيلة القارئ المقارنة بين مستعمري الأمس واليوم، فربما يجد فارقاً ولو بسيطاً، يبرر لمن تأسف قبل أيام على يوم استقلال الفرنسيين، الذين تركوا السوريين لهمج الاستعمار الحديث.
يذكر السوريون، بل ولا يمكنهم نسيان صبيحة 18 تشرين الأول اكتوبر 1925، وقت دخل 400 ثائر إلى دمشق عبر منطقة الميدان تحت إمرة حسن الخراط، ومحمود سلام وأبي عبده ديب، كما اخترقت المدينة أيضاً مجموعة مؤلفة من الخيالة المسلّحين بزعامة رمضان شلش، عبر منطقة الشاغور، لتتجه المجموعتان، وسط ترحيب من تجار الحريقة وسكانها، نحو قصر العظم، حيث مقر الجنرال "موريس سراي" المفوّض السامي الفرنسي الجديد، واشتبكوا فور وصولهم مع حامية قصر العظم، قبل أن يقتحموه ويحطموا محتوياته، ما دفع بالفرنسيين إلى إرسال تعزيزات إلى قواتهم في المدينة القديمة وفرضوا طوقاً أمنياً عليها.
التف أهالي دمشق وثوارها، مستفيدين من ضيق الشوارع التي لا تدخلها العربات والدبابات، ليلحقوا بالفرنسيين، الذين انسحبوا عند الساعة الرابعة صباحاً، خسائر بالجنود والعتاد، ما أغاظ الجنرال "سراي" وأفقده صوابه لما فعله الثوار، فأقدم على ضرب دمشق بالمدافع لثلاثة أيام متتالية، انتقاماً من أهلها بحجة أنهم يدعمون الثوار، فكان نصيب الأحياء القديمة من الحمم والنيران الأوفر، وطاولت القذائف الأسواق المركزية المحيطة بالجامع الأموي وصولاً إلى حي الميدان، بيد أن سوقي "مدحت باشا" و"البزورية" اللذين يقعان بالقرب من أبواب قصر العظم، هما من أكثر المناطق تعرّضاً للقصف الثقيل والشامل، أمّا سقف سوق الحميدية فقد انهار قسم منه بطول 90 متراً على المتاجر الصغيرة، لتهدم وتنهب الأسواق كسوق الطويل، الذي دمرت مدافع المصفحات متاجره بالكامل، و"قصر العظم"، وحي "المسكية"، و"الدرويشية"، وأصيبت مآذن وقباب جامع "الدرويشية" بصدوع، ويحرق حي "سيدي عمود" المبلط خلف سوق الحميدية، ويهدم بيت "عبد الغني القوتلي" جد الرئيس "شكري القوتلي" وبيت "البكري" الذي كان يعد من أجمل قصور دمشق وقتذاك، ولا يبقي الفرنسيون منه، سوى على "بيمارستان نور الدين الشهيد" الذي يعد من أهم "البيمارستانات" الباقية في العالم الإسلامي، ويقع إلى الجنوب الغربي من الجامع الأموي، ويضم اليوم متحف تاريخ الطب عند العرب، بعد أن قتلت مدافعهم، نحو 1500 سوري، وخسائر قدرت وقتذاك بنحو مليون فرنك فرنسي.
وهذه الأحياء ومنها الحريقة، يسكنها تاريخياً، الأعيان ورجالات دمشق، وهي من أغنى أحياء العاصمة وأعرقها، فهي تحيط بسوق الحميدية، كسوار لمعصم.
فكما سميّ حريق "سيدي عامود" بنكبة دمشق وسميّ الحي بالحريقة، وقال فيها أحمد شوقي، رائعته "سلام من صبا بردي أرقُّ"، سيكون حريق "العصرونية" مرحلة وتأريخ للمحتلين، وسيلحقهم مصير الفرنسيين بعد أن ينهض السوريون، كما طائر الفينيق، ليعيدوا للأمكنة ذكرياتها وتاريخها، بعد جلاء من هم بلا تاريخ وارتباط بالأمكنة.
عدنان عبدالرزاق - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية