لم يطاوعها لسانها كأم أن تصرخ بوجه ابنها "والله بغضب عليك" كما لم تطاوعها ذاكرتها وإنسانيتها أيضا أن تتقبل الاسم الجديد لحفيدتها التي ولدت قبل قليل تحت رواق الخيمة رقم (7) والتي أسماها والدها "جنى"، وهي التي نذرت تسميتها اسماً يليق بتاريخ السوريين ونكبتهم وجرحهم النازف العميق.
"نذر" أخفته عن مبضع القابلة وعن مشيمة الطفلة الوافدة، أخفته كما تخفي دمعتين كلما تذكرت وطنها سوريا، لكنها مع أول نوبة مخاض حركت حفيدتها في رحم "كنتها" قررت تحريك لسانها ومواجهة ابنها بما نذرته لخالقها و"ذاكرتها" بأن تسمي المولد الجديد فيما لوكان بنتا "داريا" وفاء وحبا وعربون ألم وأمل لتلك المدينة الدمشقية المحاصرة.
*الأسبوع الصامت من حياة الحفيدة
يكبله الخجل أن يسميها، فشادي والد الطفلة بار مطيع لوالدته وليس له أن يطلق اسما على ابنته و جدتها لازالت تزين خيمته وتلقي ببركتها وحنانها على كل مفصل من مفاصل حياته.
لكن الجدة الساهمة في مصائب الحياة وفي ما ينتظر حفيدتها من مستقبل غامض مجهول جعلها تسلو عن تسميتها أيضا فما كان من شادي إلا أن توجه لأحد مخاتير البلدة ليزين بختمه وتوقيعه وثيقة تعلن رسميا اسم وليدته "جنى".
*خلع ولادة... وخلع وطن
"جنى" التي طوق "الجبس" حوضها وساقيها النحيلتين، لا تعلم أنها ستكون سببا لخروج جدتها من خيمتها لأول مرة منذ أن حطت بغربتها في مخيمات لبنان، متسللة مع خيوط الشمس الأولى قاصدة مكتب "المختار" لتستبدل اسم "جنى" بـ"داريا" وهذا ما كان لها من نصر لم تذق كطعمه مذ سقطت مدينتها "القصير".
لا همّ يعلو فوق همّ سوريا عند الجدة "آمنة محمد بكار" أم عبدالله سوى هم حفيدتها "داريا" التي تعاني ألام خلع الولادة، وهي تقف عاجزة أمام علاجها، وإنقاذها من ترتيل وجعها صرخات عتب ولوم، وكأنها تعود لسيرتها الأولى في تذوق هزيمتين لم تشهد لهما مثيلا في حياتها، هزيمة العجز عن نصرة "داريا" التي حاصرها القتل والجوع والخوف وهزيمة العجز عن نصرة "داريا" تلك الطفلة العليلة المريضة التي تعاني من ألمين "خلع الولادة" و"خلع وطن".
عبد الحفيظ الحولاني - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية