ينحدر المحامي والباحث الفلسطيني "فادي سلايمة" من قرية "الشجرة" قضاء طبريا التي ينتمي إليها رسام الكاريكاتير "ناجي العلي" وشاعر الثورة الفلسطينية "أبو عرب" وعاش سلايمة في مخيم العائدين في حمص قبل أن تندلع الحرب السورية، فوجد نفسه مضطراً للنزوح مثل مئات الألوف من السوريين والفلسطينيين هرباً من الموت الذي تعددت أشكاله، ليعيش تغريبة جديدة كتلك التي عاشها أجداده عام 1948 والتي لم تختلف في طعمها عن الموت ذاته.
بدأت رحلة سلايمة بمأساة قبل أن يخرج من حمص في الأول من أيلول/سبتمبر عام 2013.
ويروي لـ"زمان الوصل" إنه لم يكد يخرج من المدينة حتى اعترضت الحافلة التي كانت تقله مع عدد من الركاب قوة تابعة للمخابرات السورية أخرجت 10 شباب فلسطينيين من الركاب، وضربوهم وأهانوهم وخلعوا ملابسهم الداخلية بحثاً عن الأموال والدولارات".
ويردف واصفاً لحظات الإذلال التي مارسها جنود الأسد بحقهم: "بعد أن انتهوا من نهب "شقاء عمر" المساكين الذي كان من المفترض أن يدفع للمهربين "تجار البشر".
ويستدرك: "قاموا بتقييد أب وابنه من أهالي مخيم العائدين في حمص واقتادوهما إلى غرفة داخلية ثم صرخوا بنا ﻹكمال الطريق دونهما، ومنذ تلك اللحظة لم نعد نعلم عنهما شيء وغالب الظن أنه تم الإجهاز عليهما".
بعد نجاته وعدد ممن كان معه من "مصيدة الموت الأسدي" انتقل سلايمة إلى الشمال بين مناطق نفوذ الجيش الحر، وأحرار الشام، والميليشيات الكردية، وجبهة النصرة التي أراد مسلحوها قتله بتهمة أنه "فلسطيني وحقوقي مشكوك بأمره" لولا شفاعة المهرب.
ويستدرك محدثنا: "كان لكل منطقة نفوذ علم خاص وحواجز وحرس، ومظاهر تدمي القلب".
بقي سلايمة ورفاقه على هذه الحال يومين كاملين يسيرون بين الجبال والأحراش حتى تسللوا الحدود إلى تركيا.
ويسرد المحامي سلايمة جانباً من مراحل رحلته الشاقة:" عندما وصلنا (مرسين) في العصر صرنا لاجئين، وعلى شواطئ تركيا اجتمعت هناك فئات مختلفة من البشر المستضعفين في الأرض، رجالاً وﻧﺴﺎﺀً ﻭﺃﻃﻔﺎﻻً، ينتظرون سفينة الموت التي ستجمعهم في رحلة واحدة كما جمعتهم النكبة في مأساة واحدة.
ويردف سلايمة واصفاً لحظات انتظار القارب الذي لم يلبث أن لاح من بعيد ورسا بين الصخور يقول:"مع صرخات البحارة وأصوات الأمواج المتلاطمة أخذ الجميع يصعد بصمت إلى القارب في طريقه إلى ﺍﻟﻤﻬﺠﺮ، ﺇﻟﻰ ﺃﻣﺎﻛﻦ ﻏﺮﻳﺒﺔ ﻣﺠﻬﻮﻟﺔ، رجالاً وﻧﺴﺎءً ﻭﺃﻃﻔﺎﻻً. ﺍلجميع -كما يقول- كانوا ﻳركبون دون أن يعرفوا إلى أين هم ذاهبون، حقائب ﻭﺣﻮﺍﺋﺞ ﻛﺜﻴﺮﺓ تم رميها في البحر، ﺇﺫ ﻓﺠﺄﺓً ﺃﺻﺒﺢ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻓﻲ ﻧﻈﺮﻫﻢ ﺗﺎﻓﻬﺎً ﻻ ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻪ، فما خسروه وتركوه في سوريا كان أعظم".
ويروي سلايمة أنه امتطى مع بقية الركاب قارباً خشبياً صغيراً على دفعتين في كل دفعة منهما حوالي 125 شخصاً، وشكّل هذا الأمر خطورة بسبب صغر القارب وكثرة عدد الهاربين وسوء مزاج البحر، وفي هذه اللحظات - كما يقول- "شعرت بأن قلبي ينفطر ألماً وبأني قد فارقت والدتي وأهلي للأبد تماما، كما حصل مع أجدادي وجداتي عندما هجروا من فلسطين سنة 1948".
ويستطرد محدثنا واصفاً أهوال الرحلة في تلك الليلة التي امتزجت فيها الرياح بالأمطار، فبعد أن تم الابتعاد عن المياه الإقليمية التركية كانت بانتظارهم سفينة صيد قديمة تتأرجح بين الأمواج المتلاطمة، وكان على متنها -كما يروي- بحارة مصريون أخذوا يرمون الحبال إلى القارب ليرمي لهم الآخرون الناس كالأغنام إلى السفينة، حتى اجتمع على متنها 244 شخصاً منهم 140 رجلاً و52 امرأة و48 طفلاً و4 بحارة".
في اليوم الثاني من إبحارهم أصيب ركاب السفينة بدوار شديد عدا البحارة الذين اعتادوا فيما يبدو على هذا الأمر، ويضيف المحامي الشاب: "رأيت آنذاك شيخاً طاعناً في السن أصابه دوار البحر فنام أياماً كاملة بلياليها حتى حسبته فاقداً للحياة".
ويردف محدثنا: "حاول البحارة خداعنا لإقناعنا بالانتقال إلى سفينة أخرى كانت أكثر قدماً واهتراء أو أن نقبل بإضافة حوالي 100 شخص آخر إلى السفينة لتحقيق ربح أكبر لهم، لولا صراخ امرأة فلسطينية كانت قد باعت بيتها من أجل رحلة الموت هذه".
ويروي محدثنا أن "صراخ المرأة دفع شاباً فلسطينياً يدعى خليل رضوان لإخراج سكينته في وجه تجار البشر، فاستنفر الركاب وحصل العصيان والهرج والمرج، في النهاية رضخ البحارة لمطلب البؤساء".
في ليلة اليوم الثالث وبالقرب من جزيرة قبرص داهمت اللاجئين عاصفة هوجاء واقترب الموت منهم أكثر من أي مرة، وهطلت الأمطار تلك الليلة بغزارة وارتفعت الأمواج أمتاراً، وامتلأت أرضية السفينة بالماء حتى كنت لا تجد مكاناً للاحتماء".
ويواصل محدثنا سرد تفاصيل ما جرى بعد ذلك وكأنه يستعيد في ذاكرته شريطاً سينمائياً عن حياة قراصنة البحار: "صرخ البحارة ورموا أثقال السفينة ووقف الرجال كلهم يتضرعون إلى الله بلسان واحد وقلب واحد، مسلمين ومسيحيين، مؤمنين وملحدين: "يا الله.. يا لطيف.. اجعل حكمك في تصريف"، وكانت صرخات النساء والأطفال تشق عنان السماء".
استمرت رحلة الأهوال 9 أيام بلياليها قضاها سلايمة مع رفاقه في عرض البحر المتوسط منقطعين عن العالم الخارجي، وكانوا- كما يؤكد - يقتاتون القليل من التمر والخبز والماء، ويقضون جل وقتهم في الدعاء أو قراءة القرآن أو تذكّر الأهل والأحبة في الوطن.
وما إن أطل اليوم الثامن حتى واجهت اللاجئين مشكلة جديدة بعد أن نفذت كل المؤونة من السفينة (الطعام والماء وحليب الأطفال..) مما اضطرهم -كما يؤكد محدثنا- لأكل الخبز العفن وشرب الماء الصدئ للبقاء على قيد الحياة، ومضت ساعات ثقيلة حتى رست السفينة في جزيرة صقلية جنوبي إيطاليا وقام الصليب الأحمر بإنقاذهم.
عند وصوله إلى إيطاليا لجأ "فادي سلايمة" مع 8 شباب فلسطينيين من أبناء مخيمه إلى دير يُدعى (سانت ماريا) في شمال إيطاليا وهناك "رأينا من الراهبات كل معاملة إنسانية لم نجدها في بلادنا، حيث قدمن لنا العلاج والحمام الساخن والملبس والمأكل والمنامة والاتصال مع الأهل.. والأهم من هذا كله معاملتنا كبشر لهم كرامة.. تلك الكرامة التي افتقدناها في بلادنا العربية".
بعد الخروج من الدير تابع محدثنا رحلته مجتازاً الحدود من إيطاليا إلى فرنسا، ومن باريس ركب القطار إلى ألمانيا، حيث ألقى البوليس الألماني القبض عليه: "كنت في حالة يرثى لها، ولما علموا بأني هارب من سوريا بادروني بالسؤال: هل أنت عطشان.. هل أنت جائع.. لا تقلق أنت في ألمانيا".
وبنبرة مؤثرة يختم محدثنا: "أذهلني وآلمني هذا الموقف وأنا أتذكر وأتخيل أفعال بني جلدتنا من شرطة بلادنا ولسان حالي يقول ما قاله الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة.. على المرء من وقع الحسام المهند
و"فادي سلايمة" محامٍ وكاتب وباحث فلسطيني، عضو في الاتحاد العام للكتاب ﻭﺍﻟﺼﺤﻔﻴﻴﻦ ﺍﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﻴﻦ، له عدة مؤلفات في توثيق التاريخ الشفهي الفلسطيني والقرى الفلسطينية المدمرة.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية