للتضحية أوجه كثيرة، أجملها أن تنكر ذاتك وتعجنها خبزاً وأملاً ليحيا بها الآخرون، فكيف إذا كانت المضحية فتاة "عانسا"، اتخذت وأختها قرار عدم الزواج وفاءً وخدمة لوالديهما المقعد الضرير.
"آمنة شروف" وأختها من قرية "الزراعة" بريف القصير لاجئتان في لبنان، بلغتا العقد الرابع من عمريهما، عمر يدرج في بلادهم تحت اسم "العنوسة"، عمر لم تشرف شمسه على المغيب فحسب، بل وخلت أيامه من كل أخ أوأم أوقريب، فالأم غيبها الموت والإخوة الثلاثة لازالوا في وطنهم سوريا، وليس هنا في خيمتهما سوى أنفاس رجل ضرير، "آمنة" شهيقه، و"أمينة" زفيره، بنتان كانتا ضحية تعلق والديهما بهما، وهما الآن يردان له الحب حبين والتعلق تعلقين وأكثر ليرفضا الزواج من أي إنسان قد يسرقهما من حبهما "الأعمى"، أو يعطل عليهما طوفان تضحيتهما الجارف.
*ضرير يحتضر
تقول "آمنة" أمنا ماتت منذ عام ونحن لانزال نحسها بيننا، ووالدنا الآن يحتضر ولا نملك أن نقدم له شيئا، أعطيته عمري، لكن العمر لا يوقف زحف الموت، أعطيته مستقبلي ووجودي، لكنهما أقل من يحجبا زحف جحافل للموت لروحه، أفديه بكل شيء فقط أن يظل بيننا يحمينا بظله الممدد منذ عشرين عاماً على الفراش، ويؤنسنا بعكازه التي ما دبت على الأرض منذ أن سكنت العتمة عينيه.
*ومن الحب ما أبكى
أشياؤه على قلتها غائبة ومرهقة لعانستين لا تملكان من الحيلة شيئا، واحده تفرغت لإطعامه وتنظيفه، والأخرى جعلت قسما من خيمتها يطل على فراش والدها الضرير متجراً لبيع البسكويت والمصاص والعلكة، علها تتمكن من إحضار "الحفوضات" له أو قد تستطيع شراء سرير يريح جانبيه المتشققين من برودة أرض الخيمة وخشونتها، أو ربما تمادت بحلمها بأن تحضر له "فرشة هوا" تليق بجسد والدها الحنون.
عانستان تحلمان بكل شيء يكون سبباً لسعادة وصحة الضرير العجوز الذي لأجله رفضتا ركوب قطار الزواج، واستقلتا بدلا عنه قطار التضحية والوفاء والبر أمام أب أحبهما فوق طاقته، ويضحيان أمامه بما يفوق طاقتيهما، ولا تعلمان من الذي سينتصر في النهايه، حب الآباء أم حب الأبناء.
قرار هو قرار الوفاء الأخير كما أسمته آمنة، الوفاء لأب أحبهما يوماً، وكحل عينيه بكل تفاصيل سعادتهما اليومية، ماعدا رؤية بنتيه عروسين، لا لقلة الطالبين والمتقدمين، بل لرفضه القبول بأي منهم.. كي لا يحرموه من خمرتيه الحلال "آمنة و"أمينة" تحت ما يسمى بمراسم الزواج.
عبد الحفيظ الحولاني - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية