ثمة وطن يهرب من الذاكرة، ماضيه حروب أهلية، وحاضره أرزة تتقاذفها السياسة والتكتلات الحزبية والإقليمية. وأخيرا وليس آخرا يغدو ملجأ لآلاف العوائل السورية المهجرة، التي لا تذكر من تراث لبنان وغابر أيامه الجميلة سوى "البوسطة" تلك التي غنتها فيروز.
قبل أن تلتحق لتعلن اصطفافها إلى جانب طبقة الحكام، وتتنكر لطبقة المحكومين وثوراتهم، تاركة لهم "بوسطة"، من موديل ستينيات أو سبعينيات القرن الماضي، تجول بين المخيمات لنقل أبناء اللاجئين هنا في لبنان إلى مدارسهم.
*نكهة الماضي الجميل
أبو عمر عز الدين من بلدة "عرسال" ليس من هواة "الأنتيكا" ولا من عشاق جمع التحف كما يقول، لكنه يرفض أن يتخلى عن تركة أبيه الغالية، "البوسطة"، ويرفض استبدالها بأي وسيلة نقل جديدة، مهما بلغت من الحداثة والسرعة، تركة خصصها لنقل التلاميذ السوريين إلى مدارسهم.
أما بالنسبة للسوريين هنا في مخيم "الوفاء العماني" فالبوسطة بالنسبة لهم ذكريات دافئة من ماضيهم الجميل، فهي بالنسبة "لأم محمد حمزة" إحدى اللاجئات من ريف القصير نسخة عن بوسطة "أبو نجيب" في بلدها، والتي كانت تقلهم أوائل الثمانينات من قرى ريف القصير البعيدة إلى جانب الساعة القديمة وسط محافظة حمص صباحا، وتعود لترجعهم عصرا، وهي بالنسبة لأبي أمجد الرفاعي من القلمون عبق رائحة السبعينيات، عندما كان طالباً في المرحلة الثانوية حيث كان يستقلها للذهاب إلى دمشق.
*لهذه الأسباب يعشقها التلاميذ
ما إن تطل بوسطة "أبو عمر" بلونها الأصفر البهيج حتى يتراكض عليها أطفال المخيم ليحجزوا أمكنتهم، معرضين عن "السرافيس" التي عرفوها وألفوها في بلادهم، وعن سر محبتهم للبوسطة تقول التلميذة "علا قرقور" من تلاميذ الصف الرابع إن شكلها يشبه المركبات الفضائية، بينما شبهتها "يسرى مندو" من الصف الأول بالوحش الكبير، لكنها لا تخافه وتعشق أن تركب داخله لتذهب إلى مدرستها.
ربما تتسع بوسطة "أبو عمر" لأكثر من 75 راكبا، وربما مدخنتها تعج بالدخان الأسود الكثيف، وربما.. وربما..، لكن لا يختلف عليها عجوزان سواء سوري أو لبناني عندما يريانها بأن يقولا كل بلكنته "سقا الله"، كما لا يتردد الأطفال بأن يصيحوا عند قدومها "حضر الوحش ليأخذنا إلى المدرسة".
عبد الحفيظ الحولاني - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية