ما من وقت تلاقت فيه المصالح الدولية حول الملف السوري كما هو حاصل الآن، و قد كان القاسم المشترك لها في ذلك هو:
1ـ الحدّ من الاندفاع التي كانت سمة واضحة لفصائل الثورة خلال الأشهر والأسابيع الماضية؛ فهاهي معركة عاصفة الجنوب قد أوقفت، وانشغل أهلها ببضع مئات من الدواعش في كهوف اللجاة، وهاهي غرفة عمليات جيش الفتح في إدلب قد حدّت من اندفاعتها باتجاه قرى و بلدات الغاب الموالية، وأصبح جلّ همها المداومة على نقاط الرباط الموكلة إلى فصائلها، وهي الآن مهددة بشكل واضح في تفكيكها بعد الخلاف المريب بين "النصرة" و"الأحرار"، وها هي غرفة عمليات جيش الفتح في حلب قد انصرفت عن خوض غمار معركة استكمال تحريرها، للتصدي لاندفاع داعش في الريف الشمالي والشرقي لها، وقطع الطريق على مسعى وحدات الحماية الكردية في مناطق الكاستيلو لتطويقها، وقطع طرق إمداد الثوار من جهة الشمال، وبتغطية من طيران النظام؛ ثأرا من التحركات التركية للفصل بين كانتوناتهم الثلاثة.
2ـ محاولة تعويم الأسد أو جزء من نظامه، ممثلاً بالأجهزة الأمنية، لمحاربة الإرهاب مجسّدا في داعش؛ بحجة امتلاكه خبرة كافية تؤهله لذلك. والمحافظة على كيان الدولة السورية من التفكك؛ لأن ذلك سيؤدي إلى الفوضى والانفلات في منطقة يمنع فيها ذلك؛ خوفا من وصول شرره إلى الجارة المدللة.
في هذا الوقت تمّ تسليط الضوء على زيادة الوجود الروسي في سورية، وتحديدا في المنطقة الساحلية الواقعة تحت سيطرة الأسد، وتمّ تصوير الأمر وكأنه احتلال يعيد إلى الأذهان صورة التدخل في أفغانستان في حقبة الاتحاد السوفييتي، وبدأَ مَنْ يهوى خوض المعارك الجانبية في صحراء أحلامه، بتجهيز النعوش التي ستعمّ أرجاء روسيا، بدءا من مدينة سيفاستبول في شبه جزيرة القرم.
فبحسب ما أفاد موقع غوردون الإخباري الناطق باللغة الروسية، نقلاً عن النائب الأوكراني، وزعيم تيار التتار في القرم مصطفى دحملوف، في حديثة للقناة الأوكرانية، بأن عشرة من الجنود الروس الذي قتلوا في سورية قد وصلوا إليها يوم السبت (26/ 9/ 2015م).
وبالطبع لا ننسى صورة الجندي الروسي المرمي في شوارع حماة، مقطوع الرأس، و هو الأمر الذي لم يتبنّه أيُّ فصيل عسكري هناك.
إن الموضوع لا يعدو كونه سعيا من أنصار الأسد على اختلاف مستوياتهم، وجنسياتهم من أجل تشتيت قوى الثورة، والحدّ من اندفاعتها نحو القرى الساحلية الموالية، كنتيجة لما خلُص إليه اللقاء الذي جمع مسؤولاً كبيرًا في المخابرات الأمريكية مع الأسد، وقاسم سليماني، وضباط من حزب الله، عقب معارك تحرير إدلب، الذي أوصى بحصر المعارك في المناطق الحاضنة للثوار ما أمكن، وقد تكفلت داعش بذلك في حينها عندما فتحت جبهة شمال وشرق حلب، ويراد لهذه القوى أن تنشغل اليوم بمعارك مع القوات الروسية لا تقل ضراوة عن معارك داعش.
وكذلك تماشيا مع رغبة التيار المتعاظم يوما بعد يوم في الساحل، حيث الحاضنة الشعبية المؤيدة لنظام الأسد الأوليغاريكتي، التي أصبحت تنظر بشيء من الريبة والتخوف إلى تزايد الوجود الإيراني في الساحة السورية لأسباب مذهبية، فهي ترى في الوجود الروسي خلاصا لها من حالة التديّن في حال تشيعهم.
وقد ساعد في تشكُّل هذا التيار الروسي على حساب التيار الإيراني، قدامى اليساريين و الماركسيين، وبعض المليونيريين الجدد من الطائفة، من رجال الأعمال ذوي الاستثمارات الكبرى في روسيا، ودول أوروبا الشرقية سابقًا، الذين لا يثقون في الشريك الإيراني، ولا يطمئنون لوضع يدهم في يده؛ نظرا لما هو معروف عنه من الإنفاق على طموحاته التوسعية من جيوب الآخرين، كما حصل في مدخرات البنك المركزي العراقي أيام نوري المالكي.
ومن هنا كان الإسراع الذي هو أقرب إلى التسرع، في إعطاء استثمارات الغاز في الساحل لشركات روسية.
إن الاندفاعة العسكرية الروسية الحالية لا تعني بالضرورة الاستعداد للذهاب إلى الحرب؛ بمقدار ما تعني البحث عن التسوية السياسية للمسألة السورية، وربّما في الإقليم برمته، إذ يعتقد المخطط الروسي أن القوى العالمية الفاعلة (أمريكا، والغرب، وإسرائيل واللوبي المؤيد لها) قد استنفدت أغراضها كلها تقريبا، المتمثلة بتدمير سورية، ومنعها من النهوض من الآن وحتى خمسين سنة قادمة على أقل تقدير، وأنّ أمن الدولة العبرية صار مضمونًا بنسبة كبيرة للغاية، وأنّ أطراف النزاع الداخلي كلها في سورية قد استهلكت قواها، وتضعضعت تمامًا؛ وبالتالي صارت البيئة الاجتماعية والنفسية و السياسية ملائمة تماما للشروع في تسوية سياسية تلبي الحد الأدنى من مطالب مختلف الأطراف.
فهل كان الروس في قلب المطبخ السياسي العالمي الذي أنضج هذه المعادلة؟ أم أنهم استشعروا ذلك وأحسوا به تمامًا؛ فبادروا إلى هذه الاستدارة الدبلوماسية العسكرية المثيرة، لأنهم يريدون أن يذهبوا إلى التسوية، التي لن تكون (سورية ـسورية) فقط، بل (سورية ـإقليمية ـ دولية)، وفي أيديهم أوراق قوة تضمن لهم مصالحهم. هذا فضلاً على الدور المناط بهم بضمان التزام الأسد بما ستسفر عنه مبادرات الحل المطروحة على الطاولة.
إنه لا يمكن أن تحصل ولأسباب كثيرة أي تسوية في سورية بمعزل عن الروس؛ و بالتالي فحضورهم اليوم في المسألة السورية، وبهذه الوتائر المتسارعة والمتصاعدة له ما يبرره، أو بالأحرى ما يفسره.
إن التفاهمات الدولية لإيجاد صيغة حلٍّ مشتركة بين أطراف النفوذ المؤثرين في المنطقة؛ ستجعل كلاًّ منهم يسعى للزج بقواته في المنطقة من أجل حماية مصالحه بالدرجة الأولى، وليس لخوض معارك جانبية تصرفه عن ذلك.
وحتى صور الطائرات الثمان والعشرين التي التقطت رابضة في مطار حميميم، لا تعدو كونها تلك الطائرات العراقية المهربة إلى إيران عام (1991م)، وقد أعيد تعميرها من قبل خبراء روس وإيرانيين، ثم أعطيت هدية للنظام للتعويض عن حالة النقص التي حلّت بالقوة الجوية لديه بعد أربع سنوات من الاستزاف.
فعلى الذين يستهويهم خوض الصراعات الأممية، والزج بالأمة في صراع بعد آخر، ينهكها، ويبدد قواها، وثرواتها، من أجل إشباع الحالة الهياجية التي يمرّون بها في لحظات اللاوعي الإيمانية، التي ينتقمون فيها لهزيمة مشروعهم في أفغانستان، والصومال، والعراق، وأبخازيا، وغروزني، وأنغوشيا، و ......
صامِّين آذانهم عن حقيقة الثورة السورية، ودواعيها، ومسبباتها، وخصوصيتها المحلية البحتة، أن يدعوا السوريين وشأنهم، بعيدا عن صدام المشاريع، والحروب بالوكالة، فكأنهم لم يكتفوا بما بددوه من ثروات وطاقات الأمة في تلك البقاع، حتى يأتوا على ما تبقى منها في سورية.
لِنَهَبْ جدلاً أن القوات الروسية قد جاءت لمؤازرة قوات الأسد المتهالكة، فما الذي ستفعله أكثر ممّا فعلته قوات مرتزقة إيران الطائفية، التي أشغلتنا ببطولاتهم الخارقة، على يد شمشونها الجبار (قاسم سليماني).
لقد رأت روسيا بعينيها كيف قادت تلك الحروبُ الدونكيشوتية إيرانَ إلى طاولة المفاوضات مع "حركة أحرار الشام"، حول حفنة من مرتزقتها أعيتها الحيلة في فك الحصار عنهم في الفوعة.
علينا ألاَّ ننشغل بقتل الناطور عن قطاف العنب، فالأيام القادمة حبلى بالمفاجآت على الصعيدين: المحلّي، والدولي، بدءا بنُذُر التصعيد المريب من دواعش "جبهة النصرة" نحو "أحرار الشام"، وانتهاءً بتلاقي المصالح بين القوى الدولية على الساحة السورية.
* د. محمد عادل شوك - مشاركة لـ "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية