قبل أيام غيّب الموت علماً من أعلام هذه البلاد، ليس علماً في السياسة أو في الاقتصاد أو في العلم، ليس علماً لثرائه أو لحضوره الإعلامي، بل علماً في الريادة والتميز البالغ في كل هذه الشؤون، لقد غيّب الموت الرجل الذي يغبن حقه إن قيل أنه يجسد العظمة، لقد غيّب الموت الدكتور كمال الشاعر.
للصدق لم يكن هناك الكثير مما يربطني بصورة شخصية أو مباشرة بالدكتور كمال الشاعر، لكن منذ الطفولة اعتدت رؤيته في أروقة المركز الأردني للدراسات والمعلومات وقاعاته فقد كان الرجل عضواً مؤسساً في مجلس أمناء المركز، وللصدق فقد كان الأنشط طوال سنوات عضويته التي امتدت حتى نهاية حياته.
الحديث عن الدكتور كمال الشاعر حديث ذو شجون، فقد ولد الرجل ونشأ في شرقي الأردن بعد أعوام قليلة على نشوء المملكة والإمارة حيث كان الشح هو السمة الأساسية في كل شيء، لكن الله قيّض له بعد توقد الذهن والفكر أسرة رعته، وكانت تعلم تماماً معنى وقيمة العلم، فدرس الشاعر ثم درّس في أكبر المعاهد العلمية العالمية وحصد فيها أعلى الدرجات، لكنه لم يتوقف عند هذا الحد بل أسس مشروعاً عز نظيره مذ بدأ وحتى هذه اللحظة، لقد أسس دار الهندسة التي كانت مشروع حياته والتي بدأت مكتباً هندسياً بسيطاً وتحولت في زمن قياسي إلى إمبراطورية اقتصادية دولية متميزة عن نظيراتها في كل شيء، ولم يكن تميز الدار وريادتها إلا جزءاً من تميز الشاعر وريادته، فهو قد بدأ مكافحاً محارباً في سبيل فكرته ولم تثنه حوادث الزمان ولا تقلبات الدنيا عن متابعة حلمه بروح المغامر ورؤية العالم، فاستمرت داره بالنمو التوسع واستمر هو بالريادة والتميز، فكان أحد رجال الأعمال العرب القلائل هذا إن لم يكن الأول والأوحد في التنازل عن الجزء الأكبر من مؤسسته لصالح العاملين بها، فكان في كل عام يختار الموظف الأكثر تميزاً ليجعل منه شريكاً مما جعل كل من عمل في الدار يشعر أنها داره وأن نجاحها وبقاءها جزء من نجاحه وبقائه، ولم يتوقف الشاعر عند حدود دار الهندسة في موطنها وإقليمها بل توسع بها حتى وصلت كل أصقاع الأرض، واشترى المؤسسة بعد الأخرى، ينقذ هذه من الانهيار، ويبني تلك من الصفر، ويجدد رونق ثالثة بعد أن أطفأه الزمن والإهمال، ويضمها كلها تحت مظلة المؤسسة الأم، المؤسسة الحلم، دار الهندسة.
وكمال الشاعر لم يكن مجرد رجل مال وأعمال بل كان رجل سياسة رفيع المستوى رفض كثيراً من المهام والمناصب واكتفى بأن يؤدي دوره في خدمة أفكاره ورسالته وقضية وطنه وأمته من وراء الكواليس، غير عابئ بالنجومية والأضواء طالما أن الرسالة ستتحقق، فأثّر وتأثر وكون صداقات وعلاقات مع أهم وأكبر شخصيات العالم، وكان دوماً يستغلها ليحقق صالح وطنه وأبنائه. ومذكراته تزخر بمواقف حاول من خلالها أن يجلب لوطنه وقضاياه نفعاً أو يدفع ضراً، فأصاب أحياناً ولم يفلح أحياناً أخرى، لكن لا النجاح غرّه فظن نفسه أكبر من هذا الوطن، ولا الفشل ثنى عزائمه عن الاستمرار. وكل هذا كان يحدث من وراء الكواليس بعيداً عن الشاشات والعدسات والمنابر.
الحديث عن رجل مثل كمال الشاعر حديث يطول، ويحتاج إلى كتب ودراسات تتعمق في فكر الرجل ومنجزاته ومدرسته. بالأمس كنت أطالع بعضاً مما كتب عنه على شبكة الإنترنت، وكان ما كتب بالإنجليزية وعلى لسان أكبر وأهم كتاب الغرب أضعاف ما كتب بالعربية، وفي هذا مصداق لما هو مشهور عن العرب أنهم لا يعطون رجالاتهم الحقيقيين أقدارهم الحقيقية، وكان من ضمن ما قرأت على لسان أحد أعضاء مجلس أمناء الجامعة الأمريكية في بيروت (أن كمال الشاعر لم يكن ينتمي إلى أي مدرسة فكرية أو سياسية أو اقتصادية ببساطة لأن كمال الشاعر كان مدرسة بحد ذاته، ويجب أن يدرس فكره وتجربته دراسة متمعنة).
رحل كمال الشاعر الذي كان رجلاً بحجم وطن لكنه أبداً لم يكبر على وطنه، ورغم أنه عاش رائداً إلا أنه غبن بعد موته ، فحتى اللحظة كل من نعى كمال الشاعر او كتب عنه، نعى رجل المال والأعمال ونسي كمال الشاعر الإنسان والرائد والفكر والفكرة، لذا نرجو من أسرة الشاعر ومحبيه أن يعملوا على الحفاظ على فكر الرجل ومدرسته وإبرازهما إبرازاً حقيقياً، ولا نريد للمسألة أن تكون مجرد خطابات ولا تمجيد وتأليه بل نتمنى أن يظهر كيان يختص بدراسة تجربة الشاعر ودار الهندسة وفكر الرجل بما له و ما عليه...
كمال الشاعر... وداعاً
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية