في توقيت عرسال ووديانها الرمادية الباهتة، لا شيء هنا ينبه المخيمات من سباتها العميق، ويوقظها من وحشتها السرمدية الكئيبة غير صوت بائع خضار قد ضل رزقه، أو (موال عتابا) من عجوز مكلومة ثكلى غالبها الحنين وغلبها.
تستفيق المخيمات كعادتها، بنصف ذاكرة تتجه للشمس، ونصف حلم يقودها للأمل، وتحت ظل حكاية يجلس لاجئون سوريون، لا قهوة لديهم ليحسنوا وفاد ضيفهم، ولا أكفان لديهم ليكرموا موتاهم.
ومن ثورة الكرامة التي خرج السوريون بها منذ 54 شهرا لم يبق لهم إلا اللجوء إلى وجه الكريم عز وجل، يقول معلم سوري عاطل عن العمل في عرسال، ويضيف:"لم يعد حلمهم وطنا، أو بلادا تحترم غربتهم، لقد صار أكبر أحلامهم قبرا وكفنا، في بلد فيه تكلفة الموت أكبر من تكلفة الحياة، ومتوسط دخل الميت يساوي أضعاف دخل الحي".
* كلفة الموت
عز الدين عبد العزيز حمود شيخ سوري يقصده أبناء بلده من كل المخيمات في عرسال عند كل حالة وفاة، طلبا لكفن يسترون به سوأة فقيدهم، وباقي مستلزمات الدفن من قطع الحجارة (الخفان أو البلوك) وكيس الاسمنت.

الشيخ عز الدين أكد لـ"زمان الوصل" أنه رغم حالته المادية البائسة، ورغم أنه يقيم مثلهم في خيمة إلا أنه "قبلة السوريين" من طلبة الأكفان، وأنه يقوم بتأمينها لهم عن طريق علاقاته الممتدة مع أهالي الخير من بلدة "عرسال" اللبنانية على الحدود السورية.
تعادل كلفة الكفن للمتوفى ما يعادل 18دولارا أمريكيا، وتزيد الكلفة للمتوفاة لتصبح 23 دولارا، أما الكلفة الإجمالية لتكلفة القبر بما يحتاجه من حجارة وإسمنت فتبلغ ما يقارب 60 دولارا، بحسب الشيخ عز الدين.
بخبرنا الشيخ بأنه استطاع بجهده الفردي ومن دون تلقي دعم أو مساعدة من أي جهة أن يؤمّن الأكفان ومستلزمات الدفن لثماني حالات وفاة حتى الآن وثقها في سجل خاص بذلك.
قد يستغرب البعض صعوبة تأمين الكفن لاعتبارهم أنه لا يكلف ذلك الثمن الباهظ، لكن أحمد -وهو شاب سوري لا ينقطع عن الإسهام في مراسم الجنازة- يبدد الشعور بالغرابة عندما يشير إلى أن ما تقدمه الأمم للعائلة السورية المؤلفة من 5 أشخاص هو 65 دولارا شهريآ بمعدل 13 دولارا للشخص الواحد أي أن كل دخلها الشهري لا يكفي لدفن ميت وإكرامه بالتراب؟!
*خيمة الوداع
شردتهم أسلحة النظام ثقيلها وخفيفها ومابينهما، ولفظتهم البشرية وعمدتهم
بماء التشرد وقالت للسوريين كونوا لاجئين، لازال الطريق إلى المقبرة مفتوحآ كل صباح، ولا زالت خيمة العم "أبو وائل" محطة الموت الأخيرة التي تزود الراحلين بآخر أثواب الوداع.
بمترين من القماش لا أكثر، وبعض الحفنات من التراب، يُطوَّق السوري عند كل فجيعة، يدفن اللاجئون موتاهم ويعودون إلى وحشتهم وغربتهم وتغريبتهم.
* مراسم الدفن والعزاء
عبدو أبو خالد يوضح لـ"زمان الوصل" سير مراسم الدفن، الذي يبدأ بتغسيل الميت وتكفينه، حيث يجتمع حوله أقرباؤه في المخيم، الذين لا يتجاوزون العشرات، ويتم نقله بسيارة زراعية للمقبرة التي قد تبعد ما بين 3 و6 كم حسب موقع المخيم، وهناك يكون قد تم تجهيز القبر من قبل بعض الشبان من أقربائه وأهل الخير، بعد حفره بأدوات يدوية بدائية، واصفا العملية بأنها شاقة وتستغرق وقتا طويلا بسبب طبيعة الأرض الرخوة جدا في عرسال.
ويضيف عبدو "بعد الصلاة على الميت ودفنه، تبدأ مراسم العزاء التي تتم ضمن الخيمة التي لا تتسع لعشرة أشخاص، مع غياب كامل لطقوس العزاء المعتادة في سوريا كالكراسي والقهوة المرة وغيرها، حيث تقتصر الضيافة على الشاي إن وجدت.
وحسب "أبو خالد" فإن مظاهر الإطعام عن روح الميت، كما جرت العادة، تنعدم نهائيا، فلا يذبح له، ولا يُوزع شيء عن روحه، حتى زيارته في المقبرة لا يقوم بها أحد بسبب بعد المقبرة ونعدام وسيلة النقل.
ويؤكد عبدو أن نقل خبر الوفاة غالبا ما يتم تداوله على صفحات "فيس بوك"، حيث
يقوم الشبان السوريون بتقبل التعازي على صفحاتهم ويتم نشر صورة المتوفى وكيف تمت الوفاة وتاريخها.
عبد الحفيظ الحولاني -عرسال - لبنان -زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية